• التقديم والتأخير في القرآن الكريم

    التقديم والتأخير في القرآن الكريم

    المفهوم الفعلي من حيث الدلالة اللغوية للتقديم والتأخير أنه إذا بدأنا بكلمة سابقة على غيرها فقد قدمناها في الكلام. والتقديم نوعان أو ثلاثة:

    1.   تقديم اللفظ على عامله نحو قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) وقوله تعالى (وربك فكبّر) وقولنا : زيداً أكل أو زيداً أكرمت.و بمحمد اقتديت.

    2.   تقديم الألفاظ بعضها على بعض في غير العامل وذلك نحو قوله تعالى (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) البقرة وقوله (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) المائدة

    أولاً: تقديم اللفظ على عامله:

    ومن هذا الباب تقديم المفعول به على فعله وتقديم الحال على فعله وتقديم الظرف والجار والمجرور على فعلهما وتقديم الخبر على المبتدأ ونحو ذلك. وهذا التقديم في الغالب يفيد الإختصاص فقولك (أنجدت خالداً) يفيد أنك أنجدت خالداً ولا يفيد أنك خصصت خالداً بالنجاة بل يجوز أنك أنجدت غيره أو لم تنجد أحداً معه. فإذا قلت: خالداً أنجدت أفاد ذلك أنك خصصت خالداً بالنجدة وأنك لم تنجد أحداً آخر.

    ومثل هذا التقديم في القرآن كثير: فمن ذلك قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) في سورة الفاتحة، فقد قدّم المفعول به " إياك " على فعل العبادة وعلى فعل الإستعانة دون فعل الهداية قلم يقل إيانا اهد كما قال في الأوليين ، وسبب ذلك أن العبادة والإستعانة مختصتان بالله تعالى فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان به. وهذا نظير قوله تعالى (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) الزمر ) وقوله (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) البقرة) فقدم المفعول به على فعل العبادة في الموضعين وذلك لأن العبادة مختصة بالله تعالى.

    ** ومثل التقديم على فعل الإستعانة قوله تعالى (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) ابراهيم) وقوله ( على الله توكلنا ربنا ، الأعراف) وقوله (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) هود) فقدم الجار والمجرور للدلالة على الإختصاص وذلك لأن التوكّل لا يكون إلا على الله وحده والإنابة ليست إلا إليه وحده.

    ولم يقدم مفعول الهداية على فعله قلم يقل : إيانا اهد كما قال (إياك نعبد) وذلك لأن طلب الهداية لا يصح فيه الإختصاص إذ لا يصح أن تقول اللهم اهدني وحدي ولا تهد أحداً غيري أو خُصني بالهداية من دون الناس وهو كما تقول اللهم ارزقني واشفني وعافني. فأنت تسأل لنفسك ذلك ولم تسأله أن يخصك وحدك بالرزق والشفاء والعافية فلا يرزق أحداً غيرك ولا يشفيه ولا يعافيه.

    ** ومن هذا النوع من التقديم قوله تعالى (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) الملك) فقدم الفعل آمنا على الجار والمجرور (به) وأخّر توكلنا عن الجار والمجرور (عليه) وذلك لأن الإيمان لما لم يكن منحصراً في الإيمان بالله بل لا بد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الأخر وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه، بخلاف التوكل فإنه لا يجوز إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قدّم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره لأن غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه.

    ** ومن ذلك أيضاً قوله تعالى (أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) الشورى) لأن المعنى هو أن الله مختص بصيرورة الأمور إليه دون غيره. ونحو قوله تعالى (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) الغاشية) . فإن الإياب لا يكون إلا إلى الله وهو نظير قوله تعالى (إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) الرعد) وقوله (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) القيامة) فالمساق إلى الله وحده لا إلى ذات أخرى وهذا ليس من التقديم من أجل مراعاة المشاكلة لرؤوس الآي كما ذهب بعضهم بل هو لقصد الإختصاص نظير قوله تعالى (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا (4) يونس) وقوله (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ (123) هود) وقوله (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) الأنبياء) وغير ذلك من الآيات.

    ** ومن هذا الباب قوله تعالى (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ (47) فصلت) فعلم الساعة مختص بالله وحده لا يعلمه أحد غيره ونحوه قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (34) لقمان) فقدم الظرف الذي هو الخبر على المبتدأ وهو نظير الآية السابقة.

    ** ونحو قوله (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (59) الأنعام) فقدم الظرف الذي هو الخبر على المبتدأ (مفاتح الغيب) وذلك لاختصاصه سبحانه بعلم الغيب ألا ترى كيف أكد ذلك الإختصاص بأسلوب آخر هو أسلوب القصر فقال: لا يعلمها إلا هو؟

    وقد يكون التقديم من هذا النوع  لغرض آخر كالمدح والثناء والتعظيم والتحقير وغير ذلك من الأغراض، إلا أن الأكثر فيه أنه يفيد الإختصاص. ومن التقديم الذي لا يفيد الإختصاص قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ (84) الأنعام) فهذا ليس من باب التخصيص إذ ليس معناه أننا ما هدينا إلا نوحاً وإنما هو من باب المدح والثناء. ونحو قوله (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) الضحى) إذ ليس المقصود به جواز قهر غير اليتيم ونهر غير السائل وإنما هو من باب التوجيه فإن اليتيم ضعيف وكذلك السائل وهما مظنة القهر فقدمهما للاهتمام بشأنهما والتوجيه إلى عدم استضعافهما.

    ثانياً: تقديم اللفظ وتأخيره على غير العامل:

    إن تقديم الألفاظ بعضها على بعض له أسباب عديدة يقتضيها المقام وسياق القول، يجمعها قولهم: إن التقديم إنما يكون للعناية والإهتمام. فما كانت به عنايتك أكبر قدمته في الكلام. والعناية باللفظة لا تكون من حيث أنها لفظة معينة بل قد تكون العناية بحسب مقتضى الحال. ولذا كان عليك أن تقدم كلمة في موضع ثم تؤخرها في موضع آخر لأن مراعاة مقتضى الحال تقتضي ذاك. والقرآن أعلى مثل في ذلك فإنا نراه يقدم لفظة مرة ويؤخرها مرة أخرى على حسب المقام. فنراه مثلاً يقدم السماء على الأرض ومرة يقدم الأرض على السماء ومرة يقدم الإنس على الجن ومرة يقدم الجن على الإنس ومرة يقدم الضر على النفع ومرة يقدم النفع على الضر كل ذلك بحسب ما يقتضيه القول وسياق التعبير.

    فإذا أردت أن تبين أسباب هذا التقديم أو ذاك فإنه لا يصح الإكتفاء بالقول إنه قدم هذه الكلم للعناية بها والإهتمام دون تبيين مواطن هذه العناية وسبب هذا التقديم.

    فإذا قيل لك مثلاً: لماذا قدم السماء على الأرض هنا؟ قلت لأن الإهتمام بالسماء أكبر ثم إذا قيل لك ولماذا قدم الأرض على السماء في هذه الآية قلت لأن الإهتمام بالأرض هنا أكبر، فإذا قيل ولماذا كان الإهتمام بالسماء هناك أكبر وكان الإهتمام بالأرض هنا أكبر؟

    وجب عليك أن تبين سبب ذلك وبيان الإختلاف بين الموطنين بحيث تبين أنه لا يصح أو لا يحسن تقديم الأرض على السماء فيما قدمت فيه السماء أو تقديم السماء على الأرض فيما قدمت فيه الأرض بياناً شافياً. وكذلك بقية المواطن الأخرى. أما أن تكتفي بعبارة أن هذه اللفظة قدمت للعناية والإهتمام بها فهذا وجه من وجوه الإبهام. والإكتفاء بها يضيع معرفة التمايز بين الأساليب فلا تعرف الأسلوب العالي الرفيع من الأسلوب المهلهل السخيف إذ كل واحد يقول لك: إن عنايتي بهذه اللفظة هنا أكبر دون البصر بما يستحقه المقام وما يقتضيه السياق.

    إن فن التقديم والتأخير فن رفيع يعرفه أهل البصر بالتعبير والذين أوتوا حظاً من معرفة مواقع الكلم وليس ادعاء يدعى أو كلمة تقال.

    وقد بلغ القرآن الكريم في هذا الفن كما في غيره الذروة في وضع الكلمات الوضع الذي تستحقه في التعبير بحيث تستقر في مكانها المناسب. ولم يكتف القرآن الكريم الذي وضع اللفظة بمراعاة السياق الذي وردت فيه بل راعى جميع المواضع التي وردت فيها اللفظة ونظر إليها نظرة واحدة شاملة في القرآن الكريم كله. فنرى التعبير متسقاً متناسقاً مع غيره من التعبيرات كأنه لوحة فنية واحدة مكتملة متكاملة.

    إن القرآن الكريم دقيق في وضع الألفاظ ورصفها بجنب بعض دقة عجيبة فقد تكون له خطوط عامة في التقديم والتأخير وقد تكون هناك مواطن تقتضي تقديم هذه اللفظة أو تلك و كذلك مرتعا فيه سياق الكلام والإتساق العام في التعبير على أكمل وجه وأبهى صورة. وسنوضح هذا القول المجمل ببيان شاف.

    إن القرآن كما ذكرت يقدم الألفاظ ويؤخرها حسبما يقتضيه المقام فقد يكون سياق الكلام مثلاً متدرجاً حسب القدم والأولية في الوجود، فيرتب الكلمات على هذا الأساس فيبدأ بالأقدم ثم الذي يليه وهكذا وذلك نحو قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات) فخلق الجن قبل خلق الإنس بدليل قوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) الحجر) فذكر الجن أولاً ثم ذكر الإنس بعدهم.

    ** ونحو قوله تعالى (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ (255) البقرة) لأن السِّنة وهي النعاس تسبق النوم فبدأ بالسنة ثم النوم.

    ** ومن ذلك تقديم عاد على ثمود قال تعالى (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ (38) العنكبوت) فإن عاداً أسبق من ثمود.

    ** وجعلوا من ذلك تقديم الليل على النهار والظلمات على النور قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) الأنبياء) فقدم الليل لأنه أسبق من النهار وذلك لأنه قبل خلق الأجرام كانت الظلمة وقدم الشمس على القمر لأنها قبله في الوجود. وقال (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) النور) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ومثل تقديم الليل على النهار تقديم الظلمات على النور كما ذكرت. قال تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ (1) الأنعام) وذلك لأن الظلمة قبل النور لما مر في الليل.

    قالوا: ومن ذلك تقديم العزيز على الحكيم حيث ورد في القرآن الكريم (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) الحشر) قالوا لأنه عزّ فحكم.

    ** ومنه تقديم القوة على العزة لأنه قوي فعزّ أي غلب بالقوة فالقوة أول قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) و (70) الحج) وقال (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) الأحزاب).

    ** وقد يكون التقديم بحسب الفضل والشرف منه تقديم الله سبحانه في الذكر كقوله تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) النساء). فقدم الله على الرسول ثم قدم السعداء من الخلق بحسب تفاضلهم فبدأ بالأفضلين وهم النبيون ثم ذكر من يعدهم بحسب تفاضلهم. كما تدرج من الفئة القليلة إلى الكثرة فبدأ بالنبيين وهو أقل الخلق ثم الصدّيقين وهم أكثر ثم الشهداء ثم الصالحين فكل صنف أكثر من الذي قبله فهو تدرج من القلة إلى الكثرة ومن الأفضل إلى الفاضل ولا شك أن أفضل الخلق هم أقل الخلق إذ كلما ترقى الناس في الفضل قلّ صنفهم.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) الأحزاب) فبدأ بالرسول لأنه أفضلهم.

    ** وجعلوا من ذلك تقديم السمع على البصر قال تعالى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) الشورى* و (إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) غافر) وقال (إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) و (هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) غافر) الإسراء) وقال تعالى (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) الإنسان) فقدم السمع على البصر. وقال (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) الفرقان) فقدّم الصم وهم فاقدو السمع على العميان وهم فاقدو البصر. قالوا لأن السمع أفضل. قاولا والدليل على ذلك أن الله تعالى لم يبعث نبياً أصم ولكن قد يكون النبي أعمى كيعقوب عليه السلام فإنه عمي لفقد ولده.

    والظاهر أن السمع بالنسبة إلى تلقي الرسالة أفضل من البصر ففاقد البصر يستطيع أن يفهم ويعي مقاصد الرسالة فإن مهمة الرسل التبليغ عن الله. والأعمى يمكن تبليغه بها وتيسير استيعابه لها كالبصير غير أن فاقد السمع لا يمكن تبليغه بسهولة فالأصم أنأى عن الفهم من الأعمى ولذا كان العميان علماء كبار بخلاف الصم. فلكون متعلق ذلك التبليغ كان تقديم السمع أولى.

    ويمكن أن يكون تقديم السمع على البصر لسبب آخر عدا الأفضلية وهو أن مدى السمع أقل من مدى الرؤية فقدم ذا المدى الأقل متدرجاً من القصر إلى الطول في المدى ولذا حين قال موسى في فرعون (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) طه) قال الله تعالى (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه) فقدم السمع لأنه يوحي بالقرب إذ الذي يسمعك يكون في العادة قريباً منك بخلاف الذي يراك فإنه قد يكون بعيداً وإن كان الله لا يند عن سمعه شيء.

    وقد يكون التقديم بحسب الرتبة وذلك كقوله تعالى (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) القلم) فإن الهمّاز هو العيّاب وذلك لا يفتقر إلى مشي بخلاف النميمة فإنها نقل للحديث من مكان إلى مكان عن شخص إلى شخص. فبدأ بالهماز وهو الذي يعيب الناس وهذا لا يفتقر إلى مشي ولا حركة، ثم انتقل إلى مرتبة أبعد في الإيذاء وهو المشي بالنميمة ثم انتقل إلى مرتبة أبعد في الإيذاء وهو أنه يمنع الخير عن الآخرين. وهذه مرتبة بعد في الإيذاء مما تقدمها. ثم انتقل إلى مرتبة أخرى أبعد مما قبلها وهو الإعتداء فإن منع الخير قد لا يصحبه اعتداء أما العدوان فهو مرتبة أشد في الإيذاء. ثم ختمها بقوله أثيم وهو وصف جامع لأنواع الشرور فهي مرتبة أخرى أشد إيذاءً. جاء في بدائع الفوائد : وأما تقدم همّاز على مشّاء بنميم فالرتبة لأن المشي مرتب على القعود في المكان. والهماز هو العيّاب وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه بخلاف النميم. وأما تقدم (مناع للخير) على (معتد) فبالرتبة أيضاً لأن المناع يمنع من نفسه والمعتدي يعتدي على غيره ونفسه قبل غيره.

    ** وجعلوا من تقدم السمع على العلم حيث وقع في القرآن الكريم كقوله تعالى (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) البقرة) وقوله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) الأنفال) وذلك أنه خبر يتضمن التخويف والتهديد. فبدأ بالسمع لتعلقه كالأصوات وهمس الحركات فإن من سمع حسك وخفي صوتك أقرب إليك في العادة ممن يقال لك: إنه يعلم وإن كان علمه تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن وواقعاً على ما قرب وشطن. ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم فهو أولى بالتقديم.

    ويمكن أن يقال: إن السمع من وسائل العلم فهو يسبقه.

    ** وجعلوا منه أيضاً تقديم المغفرة على الرحمة نحو قوله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة) في آيات كثيرة وقوله (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) النساء) قالوا: وسبب تقديم الغفور على الرحيم أن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة وإنما تأخرت في سورة سبأ في قوله (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) ) فالرحمة شملتهم جميعاً والمغفرة تخص بعضاً ، والعموم قبل الخصوص بالرتبة. ولإيضاح ذلك أن جميع الخلائق من الإنس والجن والحيوان وغيرهم محتاجون إلى رحمته فهي برحمته تحيا وتعيش وبرحمته تتراحم وأما المغفرة فتخص المكلفين فالرحمة أعمّ.

    ** ومن التقديم بالرتبة أيضاً قوله تعالى في من يكنز الذهب والفضة (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة) فبدأ بالجباه ثم الجنوب ثم الظهور قيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم فتدرج حسب الرتبة.

    وقد يكون التقديم بحسب الكثرة والقلة فقد يرتب المذكورات متدرجاً من القلة إلى الكثرة حسبما يقتضيه المقام وذلك نحو قوله (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة) فكل طائفة هي أقل من التي بعدها فتدرج من القلة إلى الكثرة. فالطائفون أقل من العاكفين لأن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة. والعكوف يكون في المساجد عموماً والعاكفون أقل من الراكعين لأن الركوع أي الصلاة تكون في كل أرض طاهرة أما العكوف فلا يكون إلا في المساجد . والراكعون أقل من الساجدين وذلك لأن لكل ركعة سجدتين ثم إن كل راكع لا بد أن يسجد وقد يكون سجود ليس فيه ركوع كسجود التلاوة وسجود الشكر فهو هنا تدرج من القلة إلى الكثرة. ولهذا التدرج سبب اقتضاه المقام فإن الكلام على بيت الله الحرام. قال تعالى (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة) فالطائفون هم ألصق المذكورين بالبيت لأنهم يطوفون حوله، فبدأ بهم ثم تدرج إلى العاكفين في هذا البيت أو في بيوت الله عموماً ثم الركع السجود الذين يتوجهون إلى هذا البيت في ركوعهم وسجودهم في كل الأرض.

    ونحوه قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) الحج) فبدأ بالركوع وهو أقل المذكورات ثم السجود وهو أكثر ثم عبادة الرب وهي أعمّ ثم فعل الخير.

    وقد يكون الكلام بالعكس فيتدرج من الكثرة إلى القلة وذلك نحو قوله تعالى (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) آل عمران) فبدأ بالقنوت وهو عموم العبادة ثم السجود وهو أخص وأقل ثم الركوع وهو أقل وأخص.

    ومنه قوه تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) التغابن) فبدأ بالكفار لأنهم أكثر قال تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) يوسف).

    ونحوه قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) فاطر) فقدم الظالم لكثرته ثم المقتصد وهو أقل ممن قبله ثم السابقين وهم أقل. جاء في الكشاف في هذه الآية فإن قلت : لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت للإيذان بكثر الفاسقين وغلبتهم وإن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل.ألا ترى كيف قال الله تعالى في السابقين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14) الواقعة) إشارة إلى ندرة وقلة وجودهم؟

    قالوا: ومن هذا النوع من القديم قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا (38) المائدة) قدم السارق على السارقة لأن السرقة في الذكور أكثر. وقدم الزانية على الزاني في قوله تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ (2) النور) لأن الزنى فيهن أكثر. ألا ترى أن قسماً من النساء يحترفن هذه الفعلة الفاحشة؟ وجاء في حاشية ابن المنير على الكشاف قوله: وقدم الزانية على الزاني والسبب فيه أن الكلام الأول في حكم الزنى والأصل فيه المرأة لما يبدو من الإيماض والإطماع والكلام، ولأن مفسدته تتحقق بالإضافة إليها".

    وقد يكون التقديم لملاحظ أخرى تتناسب مع السياق فنراه يقدم لفظة في موضع ويؤخرها في موضع آخر بحسب ما يقتضي السياق.

    **فمن ذلك تقديم لفظ الضرر على النفع وبالعكس قاولا: إنه حيث تقدم لنفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع. قال تعالى (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (188) الأعراف) فقدم النفع على الضرر وذلك لأنه تقدمه في قوله (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) الأعراف) فقدم الهداية على الضلال وبعد ذلك قال (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) ) فقدم الخير على السوء ولذا قدم النفع على الضرر إذ هو المناسب للسياق.

    وقال: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ (49) يونس) فقدّم الضرر على النفع وقد قال قبل هذه الآية (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس) وقال (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) يونس). فقدم الضر على النفع في الآيتين . ويأتي بعد هذه الآية قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) ) فكان المناسب تقديم الضرر على النفع ههنا.

    وقال: (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا (16) الرعد) فقدّم النفع على الضرر، قالوا: وذلك لتقدم قوله تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ {س}(15) الرعد) فقدم الطوع على الكره. وقال: (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا (42) سبأ) فقدم النفع على الضر قالوا: وذلك لتقدم قوله (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) سبأ) فقد البسط. وغير ذلك من مواضع هاتين اللفظتين.

    **ومن ذلك تقديم الرحمة والعذاب فقد قيل إنه حيث ذكر الرحمة والعذاب بدأ بذكر الرحمة كقوله تعالى (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ (18) المائدة) وقوله (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) فصلت) وقوله (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) غافر)

    وعلى هذا جاء قول النبي صلی الله عليه وسلم ‏ حكاية عن الله تعالى :" إن رحمتي سبقت غضبي"

    وقد خرج عن هذه القاعدة مواضع اقتضت الحكمة فيها تقديم ذكر العذاب ترهيباً وزجراً. من ذلك قوله تعالى في سورة المائدة (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) ) لأنها وردت في سياق ذكر قطاع الطرق والمحاربين والسرّاق كان المناسب تقديم ذكر العذاب وذلك أنها وردت بعد قوله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) المائدة) فقدم القتل على الإحياء ثم قال بعدها (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) ) ثم جاء بعدها (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)) ثم جاء بعدها قوله تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) )فأنت ترى أن المناسب ههنا تقديم العذاب على المغفرة. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) إلى قوله ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ) "فإن قلت لم قدم التعذيب على المغفرة؟ قلت لأنه قوبل بذلك تقديم السرقة على التوبة".

    ومن ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) ) وذلك لأنها في سياق إنذار ابراهيم لقومه ومخاطبة نمرود وأصحابه وأن العذاب وقع بهم في الدنيا. فقد أنذر ابراهيم قومه قائلاً: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) العنكبوت) ثم قال: (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) ) وهددهم بعد بقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) ) فأنت ترى أن السياق يقتضي تقديم العذاب هنا.

    وقد يكون التقديم والتأخير على نمط غير الذي ذكرت من تقديم الضرر والنفع والعذاب والمغفرة وغيرها من الخطوط العامة. فقد يقدم لفظة في مكان ويؤخرها في مكان آخر حسبما يقتضيه السياق.

    **فمن ذلك قوله تعالى (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) الأنبياء) وقوله (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) نوح) فقدم الفجاج على السبل في الآية الأولى وأخرها عنها في آية نوح وذلك أن الفجّ في الأصل هو الطريق في الجبل أو بين الجبلين، فلما تقدم في آية الأنبياء ذكر الرواسي وهي الجبال قدم الفجاج لذلك بخلاف آية نوح فإنه لم يرد فيها ذكر للجبال فأخرها. فوضع كل لفظة في الموضع الذي تقتضيه.

    **ومثل ذلك قوله تعالى (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) آل عمران) فقدم القتل على الموت في الآية الأولى وقدم الموت في الآية التي تليها وسبب ذلك والله أعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى (في سبيل الله) وهو الجهاد قدم القتل إذ هو المناسب لأن الجهاد مظنّة القتل، ثم هو الأفضل أيضاً ولذا ختمها بقوله (لمغفرة من الله ورحمة) فهذا جزاء الشهيد ومن مات في سبيل الله. ولما لم يقل في الثانية (في سبيل الله) قدم الموت على القتل لأنه الحالة الطبيعية في غير الجهاد ثم ختمها بقوله (لإلى الله تحشرون) إذا الميت والمقتول كلاهما يحشره الله إليه. فشتان ما بين الخاتمتين. فلم يزد في غير الشهيد ومن مات في سبيل الله على أن يقول (لإلى الله تحشرون) وقال في خاتمة الشهيد (لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) فوضع كل لفظة الموضع الذي يقتضيه السياق.

    ** وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) السجدة) فقدم الأنعام على الناس. وقال في مكان آخر (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) عبس) فقدم الناس على الأنعام وذلك لأنه لما تقدم ذكر الزرع في آية السجدة ناسب تقديم الأنعام بخلاف آية عبس فإنها في طعام الإنسان قال تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) عبس) ألا ترى كيف ذكر طعام الإنسان من الحب والفواكه أولاً ثم ذكر طعام الأنعام بعده وهو الأبّ أي التبن، فناسب تقديم الإنسان على الأنعام ههنا كما ناسب تقديم الأنعام على الناس ثمّ. فسبحان الله رب العالمين.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (151) الأنعام) وقوله (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) الإسراء) فقدم رزق الآباء في الآية الأولى على الأبناء، وفي الثانية قدم رزق الأبناء على الآباء وذلك لأن الكلام في الآية الأولى موجه إلى الفقراء دون الأغنياء فهم يقتلون أولادهم من الفقر الواقع بهم لا أنهم يخشونه فأوجبت البلاغة تقديم عِدتهم بالرزق تكميل العدة برزق الأولاد. وفي الآية الثانية الخطاب لغير الفقراء وهم الذين يقتلون أولادهم خشية الفقر لا أنهم مفتقرون في الحال وذلك أنهم يخافون أن تسلبهم كلف الأولاد ما بأيديهم من الغنى فوجب تقديم العدة برزق الأولاد فيأمنوا ما خافوا من الفقر. فقل: لا تقتلوهم فإنا نرزقهم وإياكم أي أن الله جعل معهم رزقهم فهم لا يشاركونكم في رزقكم فلا تخشوا الفقر.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) البقرة) وقوله (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً (23) الجاثية) فقدم القلوب على السمع في البقرة وقدم السمع على القلب في الجاثية وذلك لأنه في البقرة ذكر القلوب المريضة فقال (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا (10) ) فقدم القلوب لذلك. وفي الجاثية ذكر الأسماع المعطلة فقال (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) الجاثية) فقدم السمع. فوضع كل لفظة في المكان الذي يناسبها.

    ثم إن آية البقرة ذكرت صنفين من أصناف الكافرين من هم أشد ضلالاً وكفراً ممن ذكرتهم آية الجاثية فقد جاء فيها قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) البقرة) وجاء في الجاثية قوله (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) ) فقد ذكر في البقرة أن الإنذار وعدمه عليهم سواء وأنهم ميؤوس من إيمانهم ولم يقل مثل ذلك في الجاثية.

    ثم كرر حرف الجر (على) مع القلوب والأسماع في آية البقرة مما يفيد توكيد الختم فقال (عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) ولم يقل مثل ذلك في الجاثية بل انتظم الأسماع والقلوب بحرف جر واحد فقال (وختم على سمعه وقلبه).

    ثم قال في البقرة (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) بالجملة الإسمية والجملة الإسمية كما هو معلوم تفيد الدوام والثبات ومعنى ذلك أن هؤلاء لم يسبق لهم أن أبصروا وإنما هذا شأنهم وخلقتهم فلا أمل في إبصارهم في يوم من الأيام. في حين قال في الجاثية (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) بالجملة الفعلية التي تفيد الحدوث ومعلوم أن (جعل) فعل ماض ومعنى ذلك أن الغشاوة لم تكن قبل الجعل يدلك على ذلك قوله تعالى (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ) مما يدل على أنه كان مبصراً قبل ترديه. ثم ختم آية البقرة بقوله (وله عذاب عظيم) ولم يقل مثل ذلك في آية الجاثية. فدل على أن صفات الكفر في البقرة أشد تمكناً فيهم. ولذا قدم ختم القلب على ما سواه لأنه هو الأهم فإن القلب هو محل الهدى والضلال وإذا ختم عليه فلا ينفع سمع ولا بصر قال تعالى (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) الحج).

    وقال صلی الله عليه وسلم ‏: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"؟

    فكان تقديم القلب في البقرة أولى وأنسب كما أن تقديم السمع في الجاثية أنسب.

    ** ومنه قوله تعالى (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) النمل) وقوله (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) المؤمنون) فقدم (هذا) في الآية الأولى وأخرها في آية المؤمنون وذلك أن ما قبل الأولى (أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) النمل) وما قبل الثانية (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) المؤمنون) فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم تراباً. والجهة المنظور فيها هنا كونهم تراباً وعظاماً. ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث ذلك أن البلى في الحالة الأولى أكثر وأشد وذلك أنهم أصبحوا تراباً مع أبائهم. وأما في الآية الثانية فالبلى أقل وذلك أنهم تراب وعظام فلم يصبهم ما أصاب الأولين من البلى، ولذا قدّم (هذا) في الآية الأولى لأنه أدعى إلى العجب والتبعيد.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) الأنعام) وقوله (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) غافر)

    فأنت ترى أنه قدم في آية الأنعام (لَا إِلَهَ إِلَّا هُو) وأخّر (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وفي غافر جاء بالعكس. وذلك أنه في سياق الإنكار على الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص ونفى الصاحبة والولد قال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) الأنعام). فأنت ترى أن الكلام على التوحيد ونفي الشرك والشركاء والصاحبة والولد ولذا قدّم كلمة التوحيد (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) على (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وهو المناسب للمقام.

    ثم انظر كيف قال (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) بعد قوله (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ) فأخّر الخلق بعد التوحيد وهو نظير تأخيره بعد قوله (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) فقال (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) وهو تناظر جميل.

    أما في غافر فليس السياق كذلك وإنما هو في سياق الخلق وتعداد النعم قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)) إلى أن يقول (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) ) فالكلام كما ترى عل الخلق وعلى نعم الله وفضله على الناس لا على التوحيد فقدم الخلق لذلك فوضع كل تعبير في موطنه اللائق حسب السياق.

    جاء في البرهان للكرماني قوله (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ )في هذا السورة وفي المؤمن (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ) لأن فيها قبله ذكر الشركاء والبنين والبنات فدمغ قول قائله بقوله (لَا إِلَهَ إِلَّا هُو ) ثم قال (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ). وفي المؤمن قبله ذكر الخلق وهو (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) فخرج الكلام على إثبات خلق الناس لا على نفي الشريك فقدم في كل سورة ما يقتضيه قبله من الآيات.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (72) الأنفال) وقوله (الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) التوبة)

    فقدم الأموال والأنفس على (في سبيل الله) في سورة الأنفال وقدم (في سبيل الله) على الأموال والأنفس في سورة التوبة، وذلك لأنه في سورة الأنفال تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة من مثل قوله تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا (67) الأنفال) وهو المال الذي فدى به الأسرى أنفسهم وقوله (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) الأنفال) أي من الفداء وقوله (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا (69) الأنفال) وغير ذلك فقدم المال ههنا، لأن المال كان مطلوباً لهم حتى عاتبهم الله في ذلك فطلب أن يبدأوا بالتضحية به.

    وأما في سورة التوبة فقد تقدم ذكر الجهاد في سبيل الله من مثل قوله تعالى (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) )وقوله (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) ) وقوله (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) ) فقدم ذكر (في سبيل الله) على الأموال والأنفس وهو المناسب ههنا للجهاد كما قدم الأموال والأنفس هناك لأنه المناسب للأموال.

    **ومنه قوله تعالى (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ (14) النحل) وقوله (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ (12) فاطر):

    قّدم المواخر على الجار والمجرور في النحل وقدم (فيه) على مواخر في فاطر. وذلك أنه تقدم الكلام في النحل على وسائط النقل فذكر الأنعام وأنها تحمل الأثقال وذكر الخيل والبغال والحمير نركبها وزينة ثم ذكر الفلك وهي واسطة نقل أيضاً فقال (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) النحل) قدّم المواخر لأنه من صفات الفلك وهذا التقديم مناسب في سياق وسائط النقل. وليس السياق كذلك في سورة فاطر وإنما قال الله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) فاطر) ثم قال (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) ) فالكلام هنا على البحر وأنواعه وما أودع الله فيه من نعم. فلما كان الكلام على البحر قدم ضمير البحر على المواخر فقال (وترى الفلك فيه مواخر). فانظر كيف أنه لما كان الكلام على وسائط النقل والفلك قدم حالة الفلك ولما كان الكلام على البحر ذكر ما يتعلق به.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) الإسراء) وقوله (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) الكهف)

    قدم (للناس) على (في هذا القرآن) في الإسراء وأخّرها في الكهف وذلك لأنه تقدم الكلام في الإسراء على الإنسان ونعم الله عليه ورحمته به فقال (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) ) إلى أن يقول (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) ) فناسب تقديم الناس في سورة الإسراء.

    ولم يتقدم مثل ذلك في سورة الكهف. ثم انظر في افتتاح كل من السورتين فقد بدأ سورة الكهف بقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) ) فقد بدأ السورة بالكلام على الكتاب وهو القرآن ثم ذكر بعده أصحاب الكهف وذكر موسى والرجل الصالح وذكر ذا القرنين وغيرهم من الناس، فبدأ بذكر القرآن ثم ذكر الناس فكان المناسب أن يتقدم ذكر القرآن على الناس في هذه الآية كما في البدء.

    وأما في سورة الإسراء فقد بدأت بالكلام على الناس ثم القرآن فقد بدأت بقوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (1) )ثم تكلم على بني إسرائيل ثم قال بعد ذلك: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) ) فكان المناسب أن يتقدم ذكر الناس فيها على ذكر القرآن في هذه الآية وهذا تناسب عجيب بين الآية ومفتتح السورة في الموضعين.

    ثم انظر خاتمة الآيتين فقد ختم آية الإسراء بقوله (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) ) والكفور هو جحد النعم فناسب ذلك تقدم ذكر النعمة والرحمة والفضل ألا ترى مقابل الشكر الكفران ومقابل الشاكر الكفور قال تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) الإنسان) فكان ختام الآية مناسب لما تقدم من السياق. أما آية الكهف فقد ختمها بقوله (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) ) لما ذكر قبلها وبعدها من المحاورات والجدل والمراء من مثل قوله تعالى (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ (34) ) وقوله (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ (37) ) وبعدها (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ (56) ) وذكر محاورة موسى الرجل الصالح ومجادلته فيما كان يفعل. وقال (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا (22) ) ولم يرد لفظ الجدل ولا المحاورة في سورة الإسراء كلها. فما ألطف هذا التناسق وما أجمل هذا الكلام!.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) البقرة) وقوله (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) ابراهيم)

    فقال في آية البقرة (لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ) فقدم الشيء وأخّر الكسب. وقال في سورة ابراهيم (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ) فقدم الكسب وأخر الشيء وذلك أن آية البقرة قي سياق الإنفاق والصدقة والمنفق معطٍ وليس كاسباً ولذلك أخّر الكسب  فقال (لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا ) وأما الآية الثانية فهي في سياق العمل والعامل كاسب فقدّم الكسب.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) آل عمران) وقوله (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) الأنفال)

    فقدّم القلب على الجار والمجرور في آل عمران فقال: (ولتطمئن قلوبكم به) وأخّرها عنه في الأنفال فقال (ولتطمئن به قلوبكم) علماً بأن الكلام على معركة بدر في الموطنين غير أن الموقف مختلف.

    ففي آل عمران ذكر معركة بدر تمهيداً لذكر موقعة أحد وما أصابهم فيها من قرح وحزن والمقام مقام مسح على القلوب وطمأنة لها من مثل قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) آل عمران) إلى غير ذلك من آيات المواساة والتصبير فقال في هذا الموطن (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ) فذكر أن البشرى (لهم) وقدم (قلوبهم) على الإمداد بالملائكة فقال (إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ) كل ذلك من قبيل المواساة والتبشير والطمأنة.

    ولما لم يكن المقام في الأنفال كذلك وإنما المقام ذكر موقعة بدر وانتصارهم فيها ودور الإمداد السماوي في هذا النصر وقد فصل في ذلك أكثر مما ذكر في آل عمران فقال (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ) أقول لما كان المقام مختلفاً خالف في التعبير. أنه لما كان المقام في الأنفال مقام الإنتصار وإبراز دور الإمداد الرباني قدم (به) على القلوب والضمير يعود على الإمداد. ولما كان المقام في آل عمران هو الطمأنينة وتسكين القلوب قدمها على الإمداد فقال (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ) وزاد كلمة (لكم) فقال (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ ) زيادة في المواساة والمسح على القلوب فجعل كلاً في مقامه.

    ** ومن ذلك قوله تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة) وقوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (3) المائدة) وقوله (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) الأنعام)

    فقد قال في آية البقرة: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ) فقدم (به) على (لغير الله) ومعنى (ما أُهل به) : ما رفع الصوت بذبحه وهو البهيمة. وقال في آيتي المائدة والأنعام: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) فقدّم (لغير الله) على (به) وذلك أن المقام في آية الإنعام هو في الكلام على المفترين على الله ممن كانوا يشرعون للناس بإسم الله وهم يفترون عليه فقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) الأنعام) إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن ثمة ذوات غير الله تحلل وتحرم مفترية على الله، وذوات يزعمون أنها شركاء لله تعبد معه ونصيبها أكبر من نصيب الله في العبادة، ولذا قدم إبطال هذه المعبودات من غير الله على (ربه) فقال: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) لأنه هو مدار الإهتمام والكلام.

    والكلام في المائدة أيضاً على التحليل والتجريم ومن بيده ذلك، ورفض أية جهة تحلل وتحرم من غير الله فإن الله هو يحكم ما يريد. قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) المائدة) فهو يجعل التحليل والتحريم بيده ويرفض أية جهة أخرى تقوم بذلك، لأن ذلك من الشرك الذي أبطله الإسلام ولذا قدمه في البطلان فقال (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ). ثم إنه جاء في الموطنين بذكر اسم الله على الذبائح فذكر في آية الأنعام أن المشركين لا يذكرون اسم الله على بعض ذبائحهم تعمداً فقال: (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ). وأمر في آية المائدة بذكر اسم الله فقال: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) فناسب ذلك تقديم بطلان ذكر غير الله.

    وأما في البقرة فليس المقام كذلك فلم يذكر أن جهة أخرى تقوم بالتحليل والتحريم وإنما الكلام على ما رزق الله عباده من الطيبات فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا (168) البقرة). وقال بعدها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) البقرة) فلما كان المقام مقام الرزق والطعام بأكل الطيبات قدم (به) والضمير يعود على ما يذبح وهو طعام مناسبة للمقام والله أعلم.

    **ومن ذلك قوله تعالى: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) الملك) وقوله (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) الأنعام) فقدّم خسف الأرض على إرسال الحاصب في آية الملك وأخّر العذاب عما يأتي من السماء في آية الأنعام. وذلك أن آية الملك تقدّمها قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) الملك) فكأن أنسب شيء في الموعظة تذكيره بخسفها من تحتهم. أما آية الأنعام فتقدمها قوله تعالى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) الأنعام) فصرف هذا الخطاب تفكر النفس في عين الجهة التي ذكر منها القهر، وكان أنسب شيء ذكر منها القهر وكان أنسب شيء ذكر التخويف من تلك الجهة بخلاف آية الملك.

    ومما زاد حسناً قوله تعالى (ويرسل عليكم حفظة) والحفظة: هم الملائكة، والملائكة مسكنهم في السماء، وربنا يرسلهم من فوق فناسب تقديم هذه الجهة على غيرها.

    ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة فإن فيها كفاية فيما أحسب فهي تدل دلالة واضحة على أن التعبير القرآني تعبير مقصود كل لفظ فيه وضع وضعاً فنياً مقصوداً وأنه لم يقدم لفظة على لفظة إلا لغرض يقتضيه السياق. وقد روعي في ذلك التعبير القرآني كله ونظر إليه نظرة واحدة شاملة. وأظن أن ما مر من الأمثلة تريك شيئاً من فخامة التعبير القرآني وعلوه وأن مثل هذا النظم لا يمكن أن يكون في طوق بشر فسبحان الله رب العالمين.

    الإسلامالقرآن والتفسير

       IslamQT.Com  

    =================

    (من كتاب التعبير القرآني للدكتور فاضل السامرائي. من صفحة 49 - 74)

     


    بازگشت به ابتدا

    بازگشت به نتايج قبل

     

    چاپ مقاله

     
    » بازدید امروز: 148
    » بازدید دیروز: 1448
    » افراد آنلاین: 1
    » بازدید کل: 38922