• الإعجاز البياني في القرآن الكريم

    الإعجاز البياني في القرآن الكريم

    مظاهر الإعجاز البياني وخصائصه:

    1.  التنسيق في تأليف العبارات بتخير الألفاظ ثم نظمها في نسق خاص يبلغ من خلالها أرقى درجات الفصاحة.

    إن الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة في حيز يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول وأدق تعبير وأجمله وأحياه أيضاً، مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو. ومع جمال التعبير دقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ في موضعه وبحيث لا يجور الجمال على الدقة ولا الدقة على الجمال، ويبلغ من ذلك كله مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما لا يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلاً، لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال.

    فمن خصائص الإعجاز البياني في القرآن أنه يقتصد في الألفاظ ويفي بحق المعاني، وهاتان النهايتان لا يمكن الجمع بينهما إلا في لغة القرآن الكريم، فالذي يعمد إلى ادخار اللفظ لا ريب أنه لا يستطيع أن يعبّر عن مراده فيحيف على المعنى ولذلك يصبح اللفظ هيكلاً لا يكسوه لحماً.

    والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره لا بدّ له من كثرة الألفاظ ليشفي صدره فيكون هنالك إملال وإسراف وتكلف باستعمال الألفاظ والتراكيب الغريبة.

    ومنهم من يلقي حول المعنى كلاماً كثيراً وركاماً من الحشو والفضول فيبدد المعنى.

    ولكن كيف تجمع هاتان الغايتان على تمامهما في القرآن الكريم فنجد فيه البيان الذي لا تخمة فيه ولا مخمصة التقتير ليؤدي لك المعنى بصورة نقية وافية.

    والأدلة على تنسيق العبارات والقصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى تشمل القرآن كله من أوله إلى آخره، طوال السور وقصارها، وإنما نقتصر على ذكر بعض الأمثلة:

    فقد قال الأصمعي سمعت جارية أعرابية تنشد:

    أستغفر الله لذنبي كله *** قبلت إنساناً بغير حله

    مثل الغزال ناعماً في دّله *** وانتصف الليل ولم أصله

    فقلت: قاتلك الله ما أفصحك؟ فقالت: ويحك أو يعدّ هذا فصاحة مع قول الله - عز وجل -: ((وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين))[القصص:7].

    فقد جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.

    وقال ابن القيم في بيان أسباب الانتفاع بالقرآن:

    إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به - سبحانه - منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله قال - تعالى - : ((إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد))[ق:37]

    وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفاً على مؤثر مقتض ومحل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد.

    وتدبر قوله - تعالى -: ((فأوجس في نفسه خيفة موسى، قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى)) [طه:67 - 68].

    ففي هذه الثلاث الكلمات - إنك أنت الأعلى - ست فوائد:

    الأولى: "إن" المشددة التي من شأنها التأكيد لما يأتي بعدها.

    الثانية: تكرير الضمير في قوله - تعالى -: "إنك أنت" لتقرير الغلبة واثبات القهر.

    الثالثة: لام التعريف في قوله "الأعلى" للتخصيص أي أنت الأعلى دون غيرك.

    الرابعة: لفظ "أفعل" الذي من شأنه التفضيل، فلم يقل "العالي".

    الخامسة: إثبات الغلبة من عال.

    السادسة: الاستئناف في قوله: "إنك أنت الأعلى".

    ولم يقل: لأنك أنت الأعلى لأنه لم يجعل علة انتفاء الخوف عنه لأنه عال، وإنما نفى الخوف عنه أولاً بقوله "لا تخف"،ثم استأنف الكلام بقوله: "إنك أنت الأعلى" فكان ذلك أبلغ في تقرير الغلبة لموسى - عليه الصلاة والسلام - واثبات ذلك في قلبه ونفسه.

    فهذه ست فوائد في هذه الكلمات الثلاث. فانظر أيها المتأمل إلى هذه البلاغة العجيبة التي تحير العقول وتذهب الألباب، ومعجزة هذا الكلام العزيز الذي أعجز البلغاء وأفحم الفصحاء ورجلّ فرسان الكلام.

    ثم تدبر قوله - تعالى -: ((ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين)) [الأنبياء:46]

    لترى في نظم هذه الكلمات من جزالة اللفظ ووضوح المعنى ما لا يأتي مثله في كلام البشر.

    فهذه الجملة سيقت لإظهار هول العذاب، وذلك بإظهار التأثير الشديد لأقله، فإن جميع ألفاظ الجملة تفيد التقليل وتمدّه بالقوة كي يظهر الهول وشدة العذاب في الكثير منه.

    فلفظ "لئن" للتشكيك والشك يوحي القلة.

    ولفظ "مس" للإصابة القليلة ليست البالغة وهو يفيد القلة أيضاً.

    ولفظ "نفحة" يفيد القلة لأنه مصدر المرة الواحدة.

    ولفظ "من" للتبعيض بمعنى أنه جزء من العذاب لا العذاب كله.

    ولفظ "عذاب" هو نوع خفيف من الجزاء قياساً لأنواع النكال، فهو يشير إلى القلة أيضاً.

    ولفظ "ربك" يتناسب مع هذا المقام الذي يفيد قلة العذاب فاستعمل لفظ "ربك" الذي يشعر بالشفقة والرحمة، ولم يستعمل لفظ الجبار أو القهار أو المنتقم.

    فتأمل كيف يكون العذاب شديداً ومؤثراً مع هذه القلة التي صورها وذكرها في هذا النظم البديع، وذلك مما يحرض الإنسان العاقل على التيقظ وعدم الغفلة عن النار الحامية التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين، فيتقيها المؤمن ولو بشق تمرة.

    1. قوله - تعالى -: ((ومما رزقناهم ينفقون))

    إذا تدبرت هذه الجملة الوجيزة، فإنك تجد فيها من بديع النظم وبلاغة القول والمدلول الواسع، ما لا يمكن لبشر أن يحسن التعبير عنه بمثل هذه الألفاظ الموجزة.

    فقد ذكرت وصفاً مهماً للمؤمنين الذين يبتغون وجه الله - عز وجل - فيما ينفقونه بخلاف غيرهم، ووضعت للصدقة المقبولة شروطاً:

    الأول: أن الإنفاق يكون من بعض المال لا كله، فيكون إسرافاً، وهذا ما أفادته لفظة "من" التبعيضية، وبيانه جاء في موضوع آخر من القرآن كقوله - تعالى -: ((والذين في أموالهم حق معلوم)) [المعارج:24].

    الثاني: أن يتصدق من ماله، لا أن يأخذ من مال الآخرين ثم يتصدق، وهذا المفهوم يستفاد من قوله "رزقناهم" فالضمير "هم" يفيد بأن الإنفاق مما يخص مالهم.

    الثالث: أن يعلم المتصدق أن المال الذي ينفق منه إنما هو مال الله، فلا يعطي وعنده شعور بالكبر أو المنة على المنفق عليه لأن الرزاق هو الله والمال مال الله والله يؤتي ملكه من يشاء،وهذا المفهوم يؤخذ من الضمير "نا" في قوله "رزقناهم"،وبيان هذا ذكر في موضع آخر من القرآن منها في قوله - تعالى -: ((وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)).

    الرابع: أن ينفق على من يضع النفقة في موضع حاجاته الضرورية فلا ينفق على من يستعمل المال في السفاهة أو في مساخط الله - عز وجل-.

    الخامس: أن يكون مخلصاً في عمله يبتغي وجه الله والدار الآخرة، وهذا المفهوم يستفاد من الضمير "نا" الدالة على عظمة الله - تعالى - في قوله: "رزقناهم".

    ثم إن هذه الجملة أفادت معنى آخر وهو عموم الصدقة، فلا تكون قاصرة على التصدق بالمال، فمن رزقه الله علماً عليه أن يبذل مما علّمه الله لهداية الناس ودعوتهم إلى عبادة الله - عز وجل -  فإن زكاة العلم العمل به، والذي يملك جاهاً عليه أن يتصدق بجاهه في الإصلاح بين الناس والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال - تعالى -: ((لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما)) [النساء:114].

    وعموم الصدقة يندرج تحت لفظة "مما".

    قوله - تعالى - : ((إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين)) [القصص:4].

    إذا تدبرت هذه الآية وجدتها تشتمل على ست كلمات سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد ورونقها على ما تعاين وفصاحتها على ما تعرف.

    وهي تشتمل على جملة وتفصيل، وتفسير ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان واستحياء النساء وإذا تحكم في هذين الأمرين، فما ظنك بما دونها، لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم والقلوب لا تقر على هذا الجور.

    ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد وكفت في التظليم وردت آخر الكلام على أوله وعطفت عجزه على صدره. وغير ذلك من الأمثلة كثير.

    1. تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية وإبرازها في صور حسيّة.

    طريقة القرآن التصويرية عن الحياة التي تبثها الألفاظ في كل أمر يذكره من أمور الحياة الدنيا والآخرة بل في هذا الكون كله في السموات أو في الأرض، من جامد ومتحرك، جماد أو إنسان أو حيوان، هي سمة بارزة ميزته عن غيره من كلام الخلق شعراً أو نثراً، فما ذكر القرآن جماداً إلا جعله نابضاً بالحياة، ولا عرض مألوفاً إلا بدا جديداً، وهنا يكمن سر الإعجاز في بيان القرآن، قال - تعالى - في قصة موسى والعبد الصالح: ((حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه)) [الكهف:77].

    وقال - تعالى -: ((قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)) [النمل:18].

    وقال - تعالى -: ((والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم،لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون)) [يس:38 - 40].

    وقال - تعالى -: ((فأحيينا به الأرض بعد موتها)) [فاطر:9].

    وقال - تعالى - عن المنافقين: ((أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)) [البقرة:16].

    وقال - تعالى -: ((والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس)) [التكوير:17 - 18].

    وقال - تعالى -: ((والليل إذا يسر)) [الفجر:4] وقال - تعالى -: ((يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا)) [الأعراف:54].

    وقال - تعالى -: ((وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون)) [النحل:68].

    وقال - تعالى -: ((والنجم والشجر يسجدان)) [الرحمن:6].

    وقال - تعالى -: ((واشتعل الرأس شيبا)) [مريم:4].

    وقال - تعالى -: ((ولما سكت عن موسى الغضب)) [الأعراف:154].

    وغير ذلك من الآيات التي تذكر كل شيء في هذا الكون فتجعله نابضاً بالحياة يسبح بحمد خالقه، ويجري لأجل محدد قدّره الله - سبحانه وتعالى-:

    فالله - سبحانه وتعالى - يريد ويحب ويرضى ويغضب. كل هذا من الأوصاف اللائقة به، وليست إرادته ومحبته ورضاه وغضبه كإرادة المخلوق ومحبته وغضبه ورضاه. وتفصيل هذا الموضوع في كتب العقائد.

    ولكن إن سأل سائل، أو توهم متوهم فهم الحياة والصور التي تبعثها كلمات القرآن فيما تذكره واستبعد وقوعها بحجة التنزيه وعدم التشبيه، فإنما يقال له: - تعالى - الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)) [الشورى:11]، وإنما إذا كان للإنسان إرادة فكذلك للجدار الجامد إرادة تليق به وتناسبه يعلمها الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

    وكذلك في كل ما ذكرناه من الآيات.

    فالشمس تجري، وليس جريانها كجريان الفرس أو جري الإنسان والنجوم والكواكب تسبَحُ في فلكها، وليست سباحتها كسباحة إنسان في بركة من الماء.

    والضلالة تباع وتشترى كما يباع المتاع، وليس شرطاً أن يكون البيع كالبيع نقداً بنقد أو عيناً بعين.

    ألست تسمع قول النبي : «كلكم يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها».

    والغضب يثور ويسكت، والإنسان يثور ويسكت وليس السكوت كالسكوت.

    والمؤمن يسجد لله ويركع، والنجم والشجر يسجدان وليس السجود كالسجود على الأعضاء المذكورة في الحديث.

    والإنسان يقبل ويدبر يذهب ويجيء ويتنفس وكذلك الحيوانات، والليل والنهار والصباح لهما مثل هذه الأحوال، ولكن ليس الإقبال والإدبار والذهاب والمجيء، والتنفس كتنفس الإنسان أو الحيوان.

    والحطب إذا أوقدتها بالنار اشتعلت، وكذلك شعر الرأس إذا وقع فيه الشيب يشتعل وليس الاشتعال كالاشتعال بل كل بما يليق به.

    والنملة تقول والإنسان يقول والجلود تقول، ولكل طريقته التي يقول بها.

    قال - تعالى - عن الكفار الذين تشهد عليهم جلودهم ((وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون)) [فصلت:21].

    وقال - تعالى -: ((وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)) [الإسراء:44].

    وقال - تعالى -: ((ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون)) [النور:41].

    أرأيت أن النملة تقول والطير والمخلوقات جميعها تسبح بحمد ربها، والصبح يتنفس، والغضب يسكت، والجدار يريد، والشمس تجري، والكواكب تسبح في هذا الكون، والضلالة والهداية تباع وتشترى؟!!

    إذا كان هذا حالها كما وصفها خالقها أصدق القائلين وأحكم الحاكمين الذي له الخلق والأمر، فما لنا وللتأويل والقول بالمجاز، إن الكلام الحكيم الذي وصف بالإعجاز يتنافى مع المجاز.

    وقد صنف في هذا الموضوع رسالة مستقلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي أسماها "منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز". واعلم - علمني الله وإياك - بأنه قد سبقه أقوام من العلماء في منع جواز المجاز في القرآن، منهم ابن خويز منداد من المالكية، وابن القاص من الشافعية والظاهرية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية في كتابه القيم "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" حيث ردّ المجاز من خمسين وجهاً.

    وإن القول بالمجاز علم دخيل على دراسة القرآن نشأ مع نشأة علم الكلام، وإنما الهدف منه حسبما يذهب القائلون به لتأويل صفات الله - عز وجل - ، فخذ حذرك وتدبر أمرك.

    الإسلامالقرآن والتفسير

       IslamQT.Com

    =============

     


    بازگشت به ابتدا

    بازگشت به نتايج قبل

     

    چاپ مقاله

     
    » بازدید امروز: 109
    » بازدید دیروز: 1448
    » افراد آنلاین: 2
    » بازدید کل: 38883