• أهمية القصة القرآنية

    أهمية القصة القرآنية

    إن المساحة التي شغلتها القصة القرآنية من كتاب الله كانت مساحة واسعة، ما نظن أن موضوعاً آخر كان له ما كان للقصة من نصيب، فالقصص القرآني لايقل الحيز الذي شغله من كتاب الله تعالى عن الربع إن لم يزد قليلاً، فإذا كان القرآن ثلاثين جزءاً، فإن القصص يبلغ قرابة الثمانية أجزاء من هذا الكتاب ولا تعجب من ذلك، لأن القصة القرآنية لم تأت لتقرر هدفاً واحداً، بل إن هذا القصص كانت له أهدافه الكثيرة وغاياته المتعددة، فعلى سبيل الإجمال يهدف القصص القرآني إلى تربية نوع الانسان تربية تضمن له خير المسالك ليتبوأ أفضل المدن والممالك، وتحول بينه وبين المنزلقات والمهالك، وإذا أردنا أن نفصل بعض التفصيل، فإننا نجد أن القصص القرآني جاء:

    أولاً: ليعمق العقيدة في النفوس ويبصر بها العقول، ويحيي بها القلوب، ويسلك لتلك القضية المهمة الخطيرة أحسن الطرق إمتاعاً وإقناعاً، إمتاعاً للعاطفة، وإقناعاً للعقل، هذه العقيدة بأسسها الكبرى، الألوهية والرسالة واليوم الآخر، وكل من هذه الأصول الثلاثة ذو قضايا رئيسة كثيرة، فلقد ركزت القصة القرآنية في مقام الألوهية على وحدانية الله، وعدله، وقدرته، وحكمته، وحبّه، وودادته لعباده.

    وفي مجال الرسالة ركزت القصة القرآنية على الصفات الخيرة للأنبياء، ليكون للناس فيهم أسوة، وبهم قدوة فهم وإن كانوا بشراً إلا أنهم أكرموا بالوحي والرسالة، وكذلك في الحديث عن اليوم الآخر، وما يكون فيه من أحداث (لتجزى كل نفس بما تسعى)، وفي حديثها عن ذلك كله نجد الدليل القاطع، والبرهان الساطع منتزعاً من النفس تارة، ومن الآفاق تارة، وتسلك لذلك كله الترغيب تارة والترهيب أخرى.

    ثانياً: السمو بهذا الانسان حتى يمتاز عن الحيوان الذي يشترك معه في بعض الصفات، هذا السمو، الذي لايركز على جانب واحد في هذا الانسان، فهو سمو روحي، وخلقي، ونفسي يشعر به الفرد، وتجد به حلاوته ولذته، وهو بعد ذلك سمو اجتماعي تجد الجماعة فيه بغيتها وأمنها وضالتها وفضيلتها، والقصص القرآني يسلك أكثر من أسلوب للوصول بالإنسان إلى هذه النتيجة الطيبة.

    ثالثاً: ولا يظنن أحد أن هذا القصص كانت عنايته بالمعنويات فحسب، وإنما ركز كثيراً على الرقي المادي، وأسباب القوة، لأن هذه المادية عنصر أساسي رئيس في مقومات هذا الانسان.

    رابعاً: كان لهذا القصص عناية خاصة ببيان أسباب الهلاك التي يمكن أن تصيب الأمم والجماعات والأفراد، وقد فصّل ذلك تفصيلاً عجيباً، وهو يتحدث عن الترف والطغيان، والبطر والظلم، والاستعباد الفكري والإرهاب والسخرية والرضا بالذل إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة المبثوثة في هذا القصص.

    خامساً: التركيز على أن التدين الحق لاينفصل عن الحياة العملية، ولا ينفصم عن واقع هذا الانسان، وإنما هو مرتبط به ارتباطاً وثيقاً، بل هو جزء منه.

    سادساً: كما فصل في أسباب السعادة الروحية فصل كذلك أسباب الرقي المادي، حتى تتم السعادة للمؤمنين بهذا القصص العاملين بتوجيهاته وارشاداته.

    سابعاً: في هذا القصص كثير من الحقائق العلمية المتعلقة بالكون، والانسان، والحياة والأحياء في السماوات والأرض، والتي تزيدها الأيام وضوحاً وظهوراً.

    ثامناً: هذا كله عدا ما في القصة القرآنية من رونق الأسلوب، وبديع النظم، وجمال الصورة، مما ترقص له قلوب الأدباء، وعدا ما فيها كذلك من المواقف والتحاليل النفسية، والاستنتاجات الكامنة وراء الأحداث التي يجد فيها علماء النفس بغيتهم، وغير هؤلاء وأولئك، مما يطلع عليه من يتأمل هذه القصص ويتدبره.

    لا عجب إذن أن يكون هذا القصص بدعاً مما عرفته الانسانية من هذا اللون في القديم والحديث حتى ذلك القصص الذي جاء في الكتب السماوية نجده يختلف تماماً عن القصة القرآنية، فأنت تجد القصة في هذه الكتب فضلاً عما فيها من مخالفة لقواعد العلم وقوانين التربية، فهي مع ذلك تذكر الله ورسله بما يأباه العقل وتشمئز منه النفس، وماذا أكثر من أن يوصف الله بالندم والبداء، والظهور بصورة البشر ـ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ـ وان يوصف الرسل بالكذب والسكر والزنا!!.

    أما القصة الأدبية في القديم والحديث فبعضها يقوم على الخيال الذي لا حقيقة له، وبعضها يقوم على تشويه الحقائق وثالث ينحرف به كاتبه عن القيم والمثل والمبادئ.

    ستبقى القصة القرآنية إذن الشعلة التي تضيء لهذا الانسان، لتصل حاضره بماضيه، وستبقى النفحة الربانية التي تشرق بها النفس وتعمر القلب، وستبقى الوثيقة الوحيدة الصادقة الخالدة التي يطمئن الانسان لمصداقيتها، وستبقى النمط السويّ، الذي إن ترسمناه حقاً فسيقينا سلبيات التشويش والتهويش والتشويه.

    تلك بعض الحقائق عن القصة القرآنية، هو موضوع التكرار، التكرار في القصص القرآني.

    فالناظرون في كتاب الله تعالى من أجل تلاوته وتدبره، أو بهدف التشكيك والطعن يجدون لأول وهلة ان هناك قضايا ذكرت أكثر من مرة، وفي أكثر من موضع كالقصص وموضوعات العقيدة وبعض الجمل والآيات، وسموا ذلك تكراراً.

    ومع ان إجماعهم على هذه التسمية، إلا انهم اختلفت فيه مذاهبهم وتعددت مشاربهم، وتلك طبيعة في أحوال الناس، بل هي سنة من سنن الله في هذا المجتمع البشري، فالكثرة الكثيرة من المتدبرين رأوا أن في هذا التكرار سحر بيان، وتثبيت بنيان، فعدوه بلاغة واعجازاً ووجدوا فيه منهجاً قويماً، وهدفاً عظيماً من مناهج التربية وأهدافها، وحاولوا أن يبرهنوا على ذلك ببراهين مما عرفته العرب في كلامها شعراً ونثراً، وأن يقيموا عليه الأدلة مما قرره علماء النفس وعلماء الاجتماع وأساطين التربية، وذووا الاختصاص في فن الإعلام والدعاية.

    وفئة قليلة عميت أو تعامت، هيمن عليها الحقد فعدت هذا مثلبة ومطعناً في كتاب الله، وهؤلاء لم يظهروا إلا بعد أن فسد الذوق البياني، وضعفت السليقة العربية، لذا رأينا أن هذه القضية لم تظهر مبكرة، فلم نسمع شيئاً عنها حتى من أعداء القرآن الذين كانوا ذوي سلائق سليمة في اللغة، بل على العكس من ذلك وجدنا ان هذا القرآن يملك عليهم كل شيء وإن لم يؤمنوا به، ولكن هذه القضية ظهرت فيما بعد حينما فسد المزاج اللغوي، واجتمع الطاعنون على دين الله من كل صوب، وتألبوا حسداً على دين الله، فبدأ الحديث عن شبهة التكرار. هذا وقد شمّر العلماء عن سواعد الجد ليردوا إلى النحور الظالمة سهام الحقد، فبينوا أنّ اللفظ حينما يكرر في الحس فإنما يقرر في النفس.

    وعرض المفسرون والكاتبون في علوم القرآن والدراسات القرآنية لهذه القضية فلم يألوا جهداً في دراسة هذه القضية، ولعل من أقدم الذين عرضوا لقضية التكرار عرضاً موجزاً مركزاً امام أهل السنة اللغوي ابن قتيبة:

    قال رحمه الله: (وأما تكرار الأنباء والقصص، فإن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن نجوماً في ثلاث وعشرين سنة بفرض بعد فرض، تيسيراً منه على العباد، وتدريجاً لهم إلى كمال دينه، ووعظ بعد وعظ تنبيهاً لهم من سنة الغفلة وشحذاً لقلوبهم بتجدد الموعظة، وناسخ بعد منسوخ، استعباداً لهم، واختباراً لبصائرهم يقول الله عز وجل: (وقال الذين كفروا، لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) ).

    ثم يقول: (وكانت وفود العرب ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام فيقرئهم المسلمون شيئاً من القرآن فيكون ذلك كافياً لهم. وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثناة ومكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، وقصة لوط إلى قوم، فأراد الله بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض، ويلقيها في كل سمع ويثبتها في كل قلب، ويزيد الحاضرين في الإفهام والتحذير.

    وليست القصص كالفروض، لأن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تنفذ إلى كل قوم بما فرضه الله عليهم من الصلاة، وعددها وأوقاتها، والزكاة وسنتها، وصوم شهر رمضان وحج البيت، وهذا ما لاتعرف كيفيته من الكتاب، ولم تكن تنفذ بقصة موسى وعيسى ونوح وغيرهم من الانبياء، وكان هذا في صدر الإسلام قبل إكمال الله الدين، فلما نشره الله عزوجل في كل قطر، وبثّه في آفاق الأرض، وعلّم الأكابر الأصاغر، وجمع القرآن بين الدفتين: زال هذا المعنى، واجتمعت الأنباء في كل مصر، وعند كل قوم).

    وقد أخبر الله عزوجل بالسبب الذي من أجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن، فقال سبحانه: (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكّرون) وقال تعالى: (وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً).

    والآن نستمع لعالم آخر هو الإمام الزركشي ـ رحمه الله ـ فلقد أشار في كتابه البرهان إلى التكرار في معاني القرآن بعامة، وإلى التكرار في القصة بخاصة، فبعد أن بيّن أنّ التكرار أسلوب من أساليب العرب، وأنّ الكلام حينما يكرر فإنه في النفوس يقرر، وعاب على الذين ينكرونه عرّفه بقوله: (وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنىً، خشية تناسي الأول لطول العهد به، فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه كقوله تعالى: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه) (الزمر: 11 ـ 15).

    فأعاد قوله: (قل الله أعبد مخلصاً له ديني) بعد قوله: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين) لا لتقرير الأول، بل لغرض آخر، لأن معني الأول: الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيه، ومعنى الثاني: أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص... واعلم انه إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل، أما إذا وافق الأصل فلا، ولهذا لايتجه سؤالهم: لم كرر (إياك) في قوله (إياك نعبد وإياك نستعين).

    إن القصة الواحدة من هذه القصص، كقصة موسى مع فرعون ـ وإن ظنّ انّها لاتغاير الأخرى ـ فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فإن كل واحدة لابد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد منه، لايوقف عليه إلا منها دون غيرها، فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متكررة فيها، ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة، من انفراد كل قصة منها بموضع، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة، فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدة معان عجيبة.

    والتكرار ـ كما نراه ـ هو إعادة اللفظ نفسه في سياق واحد، ولمعنى واحد، فإذا لم يتوفر هذان الشرطان، أي إذا لم يكن المعاد اللفظ نفسه، أو إذا ذكر اللفظ أكثر من مرة ولكن لكل موضع سياقه الخاص ومعناه الخاص، فإنّ ذلك لانسميه تكراراً أبداً. هذا هو التعريف الدقيق للتكرار كما يظهر لنا.

    وقد أجمعوا على أن لا تكرار في آيات الأحكام، وإنما الذي يمكن أن يكون فيه تكرار، هما الموضوعان الأخيران آيات العقيدة والقصص. هذا من حيث الموضوع.

    أما من حيث اللفظ، فقد قالوا: إن هناك جملاً أو آيات ذكرت أكثر من مرة، مما يوجب القول بأنها مكررة. فالتكرار عند هؤلاء هو أن يذكر الموضوع، أو الجملة أو الآية أكثر من مرة، ولسنا معهم في هذا التعريف. والذي يهمنا هنا موضوع القصة، أما الموضوعان الآخران، وهما: آيات العقيدة، والتكرار في الألفاظ، فقد ضمناها كتابنا (نظرات في إعجاز القرآن).

    القصص القرآني صدق كله لاينبغي أن يرتاب فيه مرتاب، لأنه إنما ذكر في هذا الكتاب الذي لاريب فيه: قال تعالى : (ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون)، (نحن نقصُّ عليك نبأهم بالحقّ) ليس إذن كما ادعى المتخيلون الذين رأوا أن عنصر الواقعية، ليس من الضروري أن يتحقق في هذا القصص، وكذلك لاينبغي أن نعدل بالقصص القرآني عن ظاهره فنحمله على التمثيل، فنحن لانهرع إلى التمثيل إذا كان الحمل على الظاهر ممكناً. فالقصص القرآني واقعي من جهة، ولا يجوز أن يحمل على غير ظاهره من جهة أخرى.

    هل في القصص القرآني تكرار؟!

    لانحب أن نتعجل الإجابة عن هذا السؤال، نرجئه حتى نلم بالموضوع من جميع الجهات، ولابد أن نقرر هنا ما يلي:

    1 ـ لم تلتزم القصة القرآنية طريقاً واحداً من حيث الطول والقصر والإجمال والتفصيل، فهناك القصة المفصلة: كما في قصة موسى عليه السلام في سورة الأعراف، وقصة نوح عليه السلام في سورة هود.

    وهناك القصة المجملة: كما في قصة نوح في سورة الأعراف، وقصة موسى في سورة هود، فلقد أجملت كل من السورتين ما فصلته الأخرى.

    كذلك سورة يونس فصلت بعض التفصيل في قصة موسى عليه السلام وأجملت في قصة نوح عليه السلام.

    2 ـ إن كل قصة قرآنية مجملة أم مفصلة، قصيرة أم غير قصيرة، جاءت تفي بالغرض الذي سيقت من أجلهن فليس قصر القصة يشعر القارئ بشيء من النقص، بل ربما يذكر في القصة القصيرة ما لايذكر في غيرها، ولعل خير مثال على ذلك ما ذكرته قصة نوح في سورة العنكبوت.

    3 ـ إن بعض القصص القرآني لم يذكر إلا مرة واحدة، وبعضه الآخر ذكر أكثر من مرة، فالقصة التي ذكرت أكثر من مرة في كتاب الله كانت ذات صلة وثيقة بقضية الدعوة والدعاة إلى الله تعالى.

    أما التي ذكرت مرة واحدة فمع سمو الحقائق التي قررتها، وما فيها من مناهج تربوية، وغايات رائدة، ألا أنها لم تكن تتحدث عن مجال الدعوة، وعما كان بين الأنبياء عليه السلام وأممهم، وما لاقاه هؤلاء من أولئك، إنما كان حديثها في مجالات اجتماعية، وجوانب إنسانية، وقيم خلقية تمد الباحثين والعلماء بقبس لايخبو على مدى الدهر.

    وهذا الضرب من القصص ـ أعني الذي لم يذكر كثيراً في كتاب الله تعالى ـ يظن البعض لأول وهلة أنه قليل إذا قيس بغيره، مما ذكر مرات كثيرة، لكن الأمر على العكس من ذلك، فقصة يوسف عليه السلام لم تذكر إلا مرة واحدة، كذلك قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح التي جاءت في سورة الكهف، وقصة موسى مع قومه في دخول الأرض المقدسة التي جاءت في سورة المائدة، ومع قومه في ذبح البقرة. ومن هذا القبيل ما جاء في شأن ابني الخالة يحيى وعيسى عليه السلام، حيث ذكرتا مرتين، إحداهما: في مكة في سورة مريم، والأخرى: في المدينة في سورة آل عمران، وما جاء في شأن يونس عليه السلام وما كان من خبر أيوب وداود وسليمان عليهم صلاة الله وسلامه عليه، فلقد ذكر خبر أولئك مفرقاً على عدة سور، حيث خصت كل سورة بجانب يتلاءم مع موضوعها وشخصيتها.

    ولعل القصة الوحيدة التي خرجت عن هذه القاعدة فذكرت أكثر من مرة وليس لها صلة مباشرة بالدعوة والدعاة، قصة آدم، ولكن إذا عرفنا أن قصة آدم أبي البشر جاءت تحدثنا عن النواحي الفطرية والجوانب الرئيسة في حياة الإنسان، وعن الاستعدادات والغرائز التي تتكون منها طبيعته، إذا عرفنا ذلك أدركنا السر الذي ذكرت من أجله قصة آدم في أكثر من سورة.

    فالقصص الذي ذكر أكثر من مرة، قصص أولئك الأنبياء الذين تحملوا المشقة ولاقوا العنت، وهم يدعون أقوامهم كنوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم الصلاة والسلام.

    على أن في القرآن الكريم قصصاً لغير الأنبياء، أو لمن اختلف في نبوتهم لم تذكر إلا مرة واحدة في كتاب الله، كقصة ذي القرنين، وما كان من حديث لقمان لابنه، ونبأ ابني آدم وقصة أهل الكهف وخبر المائدة التي طلبها الحواريون ونبأ أصحاب الجنة الذي جاء في سورة (ن).

    فهذه القصص جميعها مع ما تعطيه من قيم، ومع كثرة ما فيها من عظات وفوائد، ومع ما يستنتج منها من قواعد كثيرة في الاجتماع والتربية والسياسة والحكم وغير ذلك من المجالات الحيوية المفيدة التي أراد الله تبارك وتعالى لهذه الأمة أن تفيد منها. أقول: مع ما تعطيه هذه القصص من ذلك كله إلا أنه اكتفي بذكرها مرة واحدة، لأنها تؤدي الغرض الذي سيقت من أجله من غير أن تذكر مرة أخرى.

    4 ـ إن بعض السور القرآنية ذكر فيها أكثر من قصة من هذا اللون، أعني اللون الذي لم يذكر إلا مرة واحدة، فإذا نظرنا لهذا القصص في هذه السورة وجدناه ذا ترتيب بديع، عجيب الشأن، إذ هو يكوِّن منهجاً متكاملاً لما ينبغي أن يكون عليه المسلمون أفراداً وجماعات، ولنأخذ سورة الكهف مثلاً، فلقد انفردت بقصص ثلاث لم تذكر في سواها وهي قصة أهل الكهف، وقصة موسى مع العبد الصالح، وقصة ذي القرنين، والذي يبدو لنا ـ والله أعلم بما ينزل ـ أن ذلك إيحاء للمسلمين ليدركوا العناصر الرئيسة التي لابد أن تتوفر في شخصيتهم، فقصة أهل الكهف تمثل عنصر العبادة والعقيدة، ولما كان أكثر ما يزلزل هذه العقيدة في النفوس ويفسد هذه العبادة. أمران اثنان هما: طغيان المال وإغواء الشيطان ذكرا بعد هذه القصة مباشرة حتى يستطيع المسلمون أن يحصنوا عقائدهم ويحافظوا على عباداتهم، فذكرت قضية المال وما يسببه من طغيان في قوله سبحانه: (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب) (الكهف 32). وبعد ذلك ذكرت القصة الثانية، وهي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح، وهذه القصة إنما تبين عنصراً آخر لابدّ أن يتوفر للمسلم وهو عنصر العلم، ذلك أن العبادة بدون علم لايأمن صاحبها على نفسه من أن يضل ويطغى، وتزل قدم بعد ثبوتها، ولعل في حديث جريج الذي أخرجه الإمام مسلم عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يثبت ذلك، فلقد جاء أن جريجاً كان عبداً واتخذ صومعة له بعيداً عن الناس، وكانت أمه يهفو إليه قلبها، فتذهب لرؤيته، فتجده يتنفل في صلاته وتناديه فيأبى أن يكلمها. ففعل ذلك أكثر من مرة، وفي المرة الثالثة دعت عليه أن لايميته الله حتى يريه وجوه المومسات، واستجاب الله الدعوة، وفي هذا الحديث تقرير لفضل العلم وأن العبادة وحدها لاتفي بما يريده الانسان من سعادة فلقد كان جريج عابداً بغير علم، ولقد كانت أمه ذات علم ومعرفة فلم تدع عليه أن يفتن.

    أما القصة الثالثة في سورة الكهف فهي قصة ذي القرنين، هي تمثل العنصر الثالث في حياة المسلمين، وهو عنصر الجهاد، وهكذا رأينا هذه السورة الكريمة تحدثنا عن القضايا الأساسية التي لابد للمسلمين منها: العقيدة والعلم والجهاد.

    5 ـ إن القصص الذي ذكر أكثر من مرة في كتاب الله لانجد منه قصة واحدة ذكرت في سورتين اثنتين بطريقة واحدة، بل نجد كل قصة جاء فيها ما لم يجيء في الأخرى، ففي كل قصة من المشاهد والجزئيات والأحداث ما تفردت به السورة التي ذكرت فيها هذه القصة.

    صحيح إن هناك قضايا مشتركه اقتضاها السياق، ولكن هذه القضايا المشتركة لم تأت على أسلوب واحد.

    ولكي نصل إلى نتيجة حاسمة في هذا الأمر، فلابد أن نلم به من زوايا ثلاث:

    أولاً: من حيث الألفاظ والتراكيب التي ذكرت في كل قصة.

    ثانياً: من حيث الموضوعات والجزئيات والمشاهد والمواقف الموزعة على السور التي ذكرت فيها القصة.

    الإسلامالقرآن والتفسير

    IslamQT.Com  

    =============

    د. فضل حسن عباس

    نقلا من موقع البلاغ


    بازگشت به ابتدا

    بازگشت به نتايج قبل

     

    چاپ مقاله

     
    » بازدید امروز: 641
    » بازدید دیروز: 946
    » افراد آنلاین: 7
    » بازدید کل: 30605