التربية بالقصص القرآني
للقصة في التربية الإسلامية وظيفة تربوية لا يحققها لون آخر من ألوان الأداء اللغوي.
ذلك أن القصة القرآنية تمتاز بميزات جعلت لها آثارًا نفسية وتربوية بليغة، محكمة، بعيدة المدى على مر الزمن، مع ما تثيره من حرارة العاطفة ومن حيوية وحركية في النفس، تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه وتجديد عزيمته بحسب مقتضى القصة وتوجييها وخاتمتها، والعِبرَةِ منها. وتتجلى أهم هذه
الميزات فيما يلي:
الميزات التربوية للقصص القرآني:
1) تشد القصة القارئ، وتوقظ انتباهه، دون توان أو تراخٍ، فتجعله دائم التأمل في معانيها والتتبع لمواقفها، والتأثر بشخصياتها وموضوعها حتى آخر كلمة فيها.
ذلك أن القصة تبدأ غالبًا، وفي شكلها الأكمل، بالتنويه بمطلب أو وعد أو الإنذار بخطر، أو نحو ذلك مما يسمى عقدة القصة، وقد تتراكم، قبل الوصول إلى حل هذه العقدة، مطالب أو مصاعب أخرى، تزيد القصة حبكًا، كما تزيد القارئ أو السامع شوقًا وانتباهًا، وتلهفًا على الحل أو النتيجة.
ففي مطلع قصة يوسف مثلاً، تعرض على القارئ ( رؤيا يوسف عليه السلام ) يصحبها وعد الله ، على لسان أبيه ، بمستقبل زاهر ، ونِعَم من الله يسبغها على الأسرة الفقيرة المتعثرة ، الداعية إلى الله .
وتتتابع المصائب والمشكلات على بطل القصة ( يوسف عليه السلام ) ويتابع القارئ اهتمامه ينتظر تحقيق وعد الله ، ويترقب انتهاء هذه المصائب والمشكلات بتلهف .
2) تتعامل القصة القرآنية والنبوية مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة ، متمثلة في أهم النماذج التي يريد القرآن إبرازها للكائن البشري ، ويوجه الاهتمام إلى كل نموذج بحسب أهميته ، فيُعرض عرضًا صادقًا يليق بالمقام ويحقق الهدف التربوي من عرضه ، ففي قصة يوسف يعرض نموذج الإنسان الصابر على المصائب في سبيل الدعوة إلى الله ( في شخص يوسف ) ، ونموذج المرأة المترفة تعرض لها حبائل الهوى فملأ قلبها الحب والشهوة ، ويدفعها إلى محاولة ارتكاب الجريمة ، ثم إلى سَجن إنسان بريء مخلص ، لا ذنب له إلا الترفع عن الدنايا والإخلاص لسيده ، ومراعاة أوامر ربه .
ونموذج إخوة يوسف : تدفعهم هواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة ومواجهة آثار الجريمة والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة .
ونموذج يعقوب : الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول . يعرض القرآن كل هذه النماذج البشرية عرضًا واقعيًا نظيفًا من غير إفحاش ولا إغراء بفاحشة أو جريمة ، كما يفعل مؤلفو القصص التي يسمونها واقعية أو طبيعية ، من روادِ جاهلية القرن العشرين ، ذلك أن من أهم غايات القصة القرآنية : التربية الخلقية عن طريق علاج النفس البشرية علاجًا واقعيًا .
فالقصة القرآنية ليست غريبة عن الطبيعة البشرية ، ولا محلقة في جو ملائكي محض ، لأنها إنما جاءت علاجًا لواقع البشر ، وعلاج الواقع البشري لا يتم إلا بذكر جانب الضعف والخطأ على طبيعته ، ثم بوصف الجانب الآخر الواقعي المتسامي الذي يمثل الرسل المؤمنون ، والذي تؤول إليه القصة بعد الصبر والمكابدة والجهاد والمرابطة ، أو الذي ينتهي عنده المطاف لعلاج ذلك الضعف والنقص ، والتردي البشري في مهاوي الشرك أو حمأة الرذيلة ، علاجًا ينهض بالهمم ، ويدفع بالنفس للسمو ، ما استطاعت ، إلى أعلى القمم ، حيث تنتهي القصة بانتصار الدعوة الإلهية ، ووصف النهاية الخاسرة للمشركين الذي استسلموا إلى الضعف والنقص ، ولم يستجيبوا لنداء ربهم فيزكوا أنفسهم .
3) تربي القصة القرآنية العواطف الربانية وذلك :
أ) عن طريق إثارة الانفعالات كالخوف والترقب ، وكالرضا والارتياح والحب ، وكالتقزز والكره ، كل ذلك يثار في طيات القصة بما فيه من وصف رائع ووقائع مصطفاة ، فقصة يوسف مثلاً تربي الصبر والثقة بالله ، والأمل في نصره ، بعد إثارة انفعال الخوف على يوسف ، ثم الارتياح إلى استلامه منصب الوزارة .
ب) وعن طريق توجيه جميع هذه الانفعالات حتى تلتقي عند نتيجة واحدة هي النتيجة التي تنتهي إليها القصة ، فتواجه مثلاً حماسة قارئ القصة نحو يوسف وأبيه ، حتى يلتقيا في شكر الله في آخر القصة ، ويوجه بُغْض الشر الذي صدر عن إخوة يوسف حتى يعترفوا بخطئهم ويستغفر لهم أبوهم في آخر القصة ، وهكذا …
ج) وعن طريق المشاركة الوجدانية حيث يندمج القارئ مع جو القصة العاطفي حتى يعيش بانفعالاته مع شخصياتها ، ففي قصة يوسف يعتري القارئ خوف أو قلق عندما يراد قتل يوسف ، وإلقاؤه في الجب ، ثم تنسرح العواطف قليلاً مع انفراج الكربة عنه ، ثم يعود القارئ إلى الترقب عندما يدخل يوسف دار ( العزيز ) وهكذا يعيش القارئ مع يوسف في سجنه وهو يدعوا إلى الله ، حتى يفرح بإنقاذه ، ثم بتوليه وزارة مصر ، وبنجاة أبيه من الحزن ، وهو في كل ذلك رسول الله والداعية إلى دينه .
4) تمتاز القصة القرآنية بالإقناع الفكري بموضوع القصة .
أ) عن طريق الإيحاء ، والاستهواء والتقمص ، فلولا صدق إيمان يوسف لما صبر في الجب على الوحشة ، ولما ثبت في دار امرأة العزيز على محاربة الفاحشة والبعد عن الزلل ، هذه المواقف الرائعة توحي للإنسان بأهمية مبادئ بطل القصة وصحتها ، وتستهويه صفات هذا البطل وانتصاره بعد صبر ومصابره طويلة ، فيتقمص هذه الصفات حتى إنه لقلدها ولو لم يقصد إلى ذلك، وحتى إنه لَيردّدُ بعض هذه المواقف ويتصورها ويسترجعها من شدة تأثره بها .
عن طريق التفكير والتأمل : فالقصص القرآني لا يخلو من محاورات فكرية ينتصر فيه الحق، ويصبح مرموقًا محفوفًا بالحوادث والنتائج التي تثبت صحته ، وعظمته في النفس وأثره في المجتمع ، وتأييد الله له . ففي قصة يوسف نجد حوارًا يدور بينه وبين فتيين عاشا معه في السجن فدعاهما إلى توحيد الله . وقصة نوح كلها حوار بين الحق والباطل ، وكذلك قصة شعيب ، وصالح وسائر الرسل : حوار منطقي مدعوم بالحجة والبرهان يتخلل القصة ، ثم تدور الدوائر على أهل الباطل ويظهر الله الحق منتصرًا في نتيجة القصة ، أو يهلك الباطل وأهله ، فيتظاهر الإقناع العقلي المنطقي والإثارة الوجدانية ، والإيحاء وحب البطولة ( الاستهواء ) والدافع الفطري إلى حب القوة وتقليد الأقوياء ، تتظاهر كل هذه العوامل وتتضافر ، يؤيدها التكرار مرة بعد مرة ، فما أكثر تكرار بعض قصص القرآن حتى تؤدي بمجموعها إلى تربية التصور الرباني للحياة وللعقيدة واليوم الآخر وإلى معرفة كل جوانب الشريعة الإلهية معرفة إجمالية وإلى تربية العواطف الربانية من حب في الله ، وكراهية للكفر وحماسة لدين الله ولحماته ، ولرسل الله ، وولاء الله وانضواء تحت لوائه ، وإلى السلوك المستقيم وفق شريعة الله ، والتعامل حسب أوامره ، وبهذا تحيط القصة القرآنية نفس الناشئ بالتربية الربانية من جميع جوانبها العقلية والوجدانية والسلوكية .
الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com
=============
|