تعريف التفسير الموضوعي ونشأته
يتألف مصطلح "التفسير الموضوعي" من جزأين ركبا تركيبًا وصفيًا فلا بد من تعريف الجزأين أولًا ثم تعريف المصطلح المركب منها.
تعريف التفسير:
التفسير لغة: من الفسر، وهو الكشف والبيان، وفي مفردات الراغب:
إظهار المعنى المعقول. والتفسير مبالغة من الفسر.
قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] أي أحسن توضيحًا وبيانًا للمطلوب.
وفي الاصطلاح: علم يكشف به عن معاني آيات القرآن وبيان مراد الله تعالى منها حسب الطاقة البشرية.
تعريف الموضوع:
الموضوع لغة: من الوضع، وهو جعل الشيء في مكان ما، سواء كان ذلك بمعنى الحط والخفض، أو بمعنى الإلقاء والتثبيت في المكان، يقال ناقة واضعة: إن رعت الحمض حول الماء ولم تبرح، وقيل: وضعت تضع وضيعة فهي واضعة، وكذلك موضوعة يتعدى ولا يتعدى. وهذا المعنى ملحوظ في التفسير الموضوعي لأن المفسر يرتبط بمعنى معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى يفرغ من تفسير الموضوع الذي التزم به.
وفي الاصطلاح: قضية، أو أمر متعلق بجانب من جوانب الحياة في العقيدة أو السلوك الاجتماعي أو مظاهر الكون تعرضت لها آيات القرآن الكريم.
أما تعريف مصطلح "التفسير الموضوعي" بعد أن أصبح علمًا على لون من ألوان التفسير فقد تعددت تعاريف الباحثين المعاصرين له. منها:
- هو بيان ما يتعلق بموضوع من موضوعات الحياة الفكرية أو الاجتماعية أو الكونية من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده.
- وعرفه بعضهم بقوله: هو جمع الآيات المتفرقة في سورة القرآن المتعلقة بالموضوع الواحد لفظًا أو حكمًا وتفسيرها حسب المقاصد القرآنية.
- وقيل: هو بيان موضوع ما من خلال آيات القرآن، الكريم في سورة واحدة أو سورة متعددة.
- وقيل: هو علم يبحث في قضايا القرآن الكريم، المتحدة معنى أو غاية، عن طريق جمع آياتها المتفرقة، والنظر فيها، على هيئة مخصوصة، بشروط مخصوصة لبيان معناها، واستخراج عناصرها، وربطها برباط جامع.
- وقيل: هو علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر.
ولعل التعريف الأخير هو الأرجح، لخلوه عن التكرار ولإشارته إلى نوعيه الرئيسيين.
والتعاريف السابقة يغلب عليها طابع الشرح والتوضيح لمنهج البحث في التفسير الموضوعي.
نشأة التفسير الموضوعي:
لم يظهر هذا المصطلح "التفسير الموضوعي" إلا في القرن الرابع عشر الهجري، عندما قررت هذه المادة ضمن مواد قسم التفسير بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر. إلا أن لَبِنات هذا اللون من التفسير وعناصره الأولى كانت موجودة منذ عصر التنزيل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن تتبع الآيات التي تناولت قضية ما والجمع بين دلالاتها وتفسير بعضها لبعض، مما أطلق عليه العلماء فيما بعد بتفسير القرآن بالقرآن، كان معروفًا في الصدر الأول، وقد لجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه عندما سئل عن تفسير بعض الآيات الكريمة:
- روى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ قال: "إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} [لقمان: 13] ، إنما هو الشرك" 1.
- روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر مفاتح الغيب في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] فقال: "مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] ".
- ومن هذا القبيل ما كان يلجأ إليه الصحابة رضوان الله عليهم من الجمع بين الآيات القرآنية التي يظن بها بعضهم التعارض، كما روى البخاري قال: وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}، {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فقد كتموا في هذه الآية، وقال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فذكر خلق السماء قبل الأرض، ثم قال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {طَائِعِين} فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء. وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى: {دَحَاهَا}.
وقد وضع العلماء بعد ذلك قاعدة في أصول التفسير بضرورة العودة إلى القرآن الكريم نفسه لمعرفة تفسير آية ما، فما أجمل في مكان فصل في مكان آخر، وما أطلق في سورة مقيد في سورة أخرى. يقول ابن تيمية: "إن أصح الطرق في ذلك -أي في تفسير القرآن- أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر".
ومن أبرز تلك الأمثلة قوله تعالى في سورة النحل: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 118]، فقد أفادت الآية الكريمة أن ما حرم على اليهود قد قصه الله سبحانه وتعالى على نبيه، وبالرجوع إلى الآية التي ورد فيها ذكر المحرمات عليهم، نجد أن آية الأنعام قد فصلت هذا الإجمال وأزالت ذاك الإبهام في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] .
وكذلك ما يتعلق بالمحرمات من بهيمة الأنعام على هذه الأمة نجد في ذلك عدة آيات:
كقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] .
وقد جاء تفصيل هذه المحرمات في عدة آيات كقوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 172، 173] .
وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] .
وقد جمع الفقهاء هذه الآيات ذات الصلة بموضوع واحد في كتبهم الفقهية فجمعوا ما يتعلق بالوضوء والتيمم تحت كتاب الطهارة واستنبطوا منها الأحكام الخاصة بها، كما جمعوا ما ورد في الصلاة وقيامها وركوعها والقراءة فيها تحت كتاب الصلاة، وما يتعلق بالصدقات وجوبًا ومصارف وأنواع المال التي تخرج الصدقة منها تحت كتاب الزكاة، وهكذا في سائر أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والفرائض والسير.
وكل ذلك لون من ألوان التفسير الموضوعي في خطواته الأولى.
وقد أخذت هذه الدراسات الموضوعية اتجاهًا آخر في نفس الوقت وهو الاتجاه اللغوي وذلك بتتبع اللفظة القرآنية ومحاولة معرفة دلالاتها المختلفة.
فقد ألف مقاتل بن سليمان البلخي المتوفى سنة 150هـ كتابًا سماه "الأشباه والنظائر في القرآن الكريم"، وذكر فيه الكلمات التي اتحدت في اللفظ واختلفت دلالالتها حسب السياق في الآيات الكريمة.
وألف يحيى بن سلام المتوفى سنة 200هـ كتابه "التصاريف"، تفسير القرآن مما اشتبهت أسماؤه وتصرفت معانيه على طريقة كتاب الأشباه والنظائر.
وألف الراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502هـ كتابه "المفردات في القرآن" حيث تتبع مادة الكلمة القرآنية وبين دلالاتها في مختلف الآيات.
ثم ألف ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ كتابه "نزهة الأعين النواضر في علم الوجوه والنظائر".
وعلى هذه الشاكلة كتاب الدامغاني المتوفى سنة 478هـ بعنوان "إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم".
وكتاب الفيروزآبادي المتوفى سنة 817هـ بعنوان "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز".
وكتاب ابن العماد المتوفى سنة 887هـ بعنوان "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر".
وكان الغالب على هذه المؤلفات الجانب للكلمات الغريبة التي تتعدد دلالاتها حسب الاستعمال.
وإلى جانب هذا اللون من التفسير فقد برزت دراسات تفسيرية لم تقتصر على الجوانب اللغوية بل جمعت بين الآيات التي يربطها رابط واحد أو يمكن أن تدخل تحت عنوان معين:
فقد ألف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة 224هـ كتابه في الناسخ والمنسوخ.
وألف الإمام علي بن المديني "شيخ البخاري" والمتوفى سنة 234هـ كتابه في أسباب النزول.
وألف الإمام ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ كتابه "تأويل مشكل القرآن".
وألف أبو بكر الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370هـ كتابه "أحكام القرآن".
وألف ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543هـ كتابه "أحكام القرآن" أيضًا.
وألف إلكيا الهراسي الشافعي المتوفي سنة 504 هـ كتابه "أحكام القرآن" أيضًا.
وظهرت مؤلفات أخرى جميع أصحابها ما يشمله عنوان الكتاب:
مثل "أمثال القرآن" للماوردي المتوفى سنة 450هـ.
وكتاب "مجاز القرآن" للعز بن عبد السلام المتوفى سنة 660هـ.
وكتاب "أقسام القرآن" و"أمثال القرآن" لابن القيم المتوفى سنة 751هـ.
ولا زال هذا الخط من التأليف في التفسير الموضوعي مستمرًا إلى يومنا هذا، وقد توجهت أنظار الباحثين إلى هدايات القرآن الكريم حول معطيات الحضارات المعاصرة وظهور المذاهب والاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية، والعلوم الكونية والطبيعية.
فنجد مؤلفات كثيرة تحت عناوين شتى مثل:
- الإنسان في القرآن.
- المرأة في القرآن.
- الأخلاق في القرآن.
- اليهود في القرآن.
- سيرة الرسول صور مقتبسة من القرآن.
- الصبر في القرآن.
- الرحمة في القرآن.
ومثل هذه الموضوعات لا تكاد تتناهى، فكلما جد جديد في العلوم المعاصرة، التفت علماء المسلمين إلى القرآن الكريم ليسترشدوا بهداياته وينظروا في توجيهات الآيات الكريمة في مثل هذه المجالات الجديدة.
IslamQT.Com
الإسلام – القرآن والتفسير
===============
المصدر:
مباحث في التفسير الموضوعي للدكتور مصطفى مسلم.
|