منهج الإمام مجاهد بن جبر في التفسير
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وبعد؛
فإن الإمام التابعي مجاهدا بن جبر القرشي المخزومي مولاهم، المتوفى – رحمه الله تعالى – عام 104هـ كان من كبار أعلام التابعين، ومن الأئمة الذين اشتهروا بالرواية للحديث والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة الأخيار، حتى إنه ليعد من أئمة التابعين وفقهائهم، ومن كان لهم فضل كبير في نشر علوم الصحابة – رضوان الله عليهم – خاصة من لازمهم منهم.
وإن من أهم الجوانب التي اشتهر بها الإمام مجاهد، وأكثر السلف رضوان الله عنهم من النقل عنه فيها: جانب التفسير، فلا يكاد يخلو كتاب من كتب التفسير، سواء بالمأثور أو بالرأي أو التفسير الإشاري وغيرها من النقل عنه، أو عرض بعض تفسيراته وتأويلاته. وباستعراض تفسير الإمام مجاهد، نجده يفسر بالقرآن أحيانا، ويفسر بالحديث أحيانا، ويفسر بفتاوى الصحابة، ويفسر بمعاني اللغة، ويفسر بالإسرائيليات وما رواه من صحف بني إسرائيل. فمادة التفسير عنده – رحمه الله – خصبة، كثيرة الجذور والمستقيات.
فمن أجل ذلك أحببت في هذا البحث المختصر تسليط الضوء على أهم مميزات تفسير الإمام مجاهد بن جبر، معتمدا في ذلك على ما تيسر لدي من المصادر التي غطت البحث من الناحية العلمية والتاريخية، خاصة تفسيره المطبوع. وغير ذلك من المصادر المعتمدة قديما وحديثا.
أولاً: تفسيره القرآن بالقرآن
قال في آية: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا}. [المائدة/ 32]: "هذا مثل قوله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها}". [النساء/ 93].
وقال في آية: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}. [الأنعام/ 59]: "هي قوله: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث}...إلخ السورة"[لقمان/ 34].
وقال في آية: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا}. [الأنعام/ 70]: "هو مثل قوله: {ذرني ومن خلقت وحيدا}. [المدثر/ 12]".
قال في آية: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل}. [الأعراف/ 101]: "هو كقوله: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه}".
وقال في آية: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}. [طه/ 1]: "يعني: في الصلاة، وهو كقوله: {فاقرؤوا ما تيسر منه}. [المزمل/ 20]، قال: وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة".
وقال في آية: {ومانتنزل إلا بأمر ربك}. [مريم/ 64]: "هذا قول الملائكة حين استزارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: {ما ودعك ربك وما قلى}. [الضحى/ 3]".
وقال في قوله تعالى: {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة}. [الزمر/ 24]: "يُجر على وجهه في النار، وهو كقوله: {أفمن يُلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة}".
وقال في آية: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض}. [النجم/ 32]: "هو كقوله: {وهو أعلم بالمهتدين}. [القلم/ 7]".
وقال في آية: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها}. [يونس/ 7]: "هومثل قوله: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها}...الآية".
وقال في قوله تعالى: {ثم السبيل يسره}. [عبس/ 20]: "هو مثل قوله: {إنا هديناه السبيل}. [الإنسان/3]".
الفصل الثاني: تفسيره باللغة
وهنا نورد ما فسره باعتبار اللسان العربي من المصطلحات والعبارات القرآنية: فسر آية: {في طغيانهم يعمهون} [البقرة/ 15]: "يعني في ضلالتهم، يعني: يترددون. يقول: زادهم الله ضلالة إلى ضلالتهم، وعمى إلى عماهم".
وفي آية: {قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك}. [البقرة/ 71]: قال: "العوان: النصف لا كبيرة ولا صغيرة".
قال في آية: {وآتوا حقه يوم حصاده}. [الأنعام/ 141]: "قال: نافلة واجبا حين يصرم سوى الزكاة".
وقال في آية: {ومن الأنعام حَمولة وفرشا}. [الأنعام/ 142]: "الحمولة: ما قد حَمَل من الإبل. والفرش: صغار الإبل التي لم تحمل".
وقال في قوله تعالى: {فلا يكن في صدرك حرج منه}. [الأعراف/ 2]: "يعني: شكا منه".
وقال في آية: {حتى يلج الجمل في سم الخياط}. [الأعراف/ 40]: "الجمل: هو الجمل الذي على أربع قوائم، وكان يقرأها: الجُمَّل. وسم الخياط: هو ثقب الإبرة".
وقال في آية: {فوقع الحق}. [الأعراف/ 118]: "فظهر الحق". وقال في آية: {فإذا هي تلقف ما كانوا يأفكون}. [الأعراف/ 117]: "يعني: يكذبون". وقال في {طوى}. [طه/ 12]: "يقول: طأ الأرض حافيا كما تدخل الكعبة حافيا، يعني: من بركة الوادي".
وقال في قوله تعالى: {وفاكهة وأبا}. [عبس/ 31]: "الفاكهة: ما يأكل الناس. والأب: ما يأكل الأنعام".
وقال في قوله تعالى: {وإذا العشار عطلت}. [التكوير/ 4]: "العشار: هي الإبل. عطلها أربابها".
الفصل الثالث: تفسيره بالرأي
فسر آية: {الذي رزقنا من قبل}. [البقرة/ 25]: قال: "يقول: ما أشبهه به، يقول: من كل صنف مثل".
وفي آية: {ولهم فيها أزواج مطهرة}. [البقرة/ 25]: قال: "طهرن من الحيض والغائط، والبول والبزاق، والنخامة والمني والولد".
وقال في آية: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة}. [البقرة/ 26]: "يعني: الأمثال كلها، صغيرها وكبيرها، يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم بها".
وفي آية: {إني أعلم ما لا تعلمون}. [البقرة/ 30]، قال: "علم من إبليس المعصية وخلقه لها".
وفي آية: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم}. [البقرة/ 75]: قال: "يعني: الذين يعرفونه، والذين يكتمونه، والأميين منهم، والذين نبذوا ما أوتوا من الكتاب وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، هؤلاء كلهم يهود".
وقال في آية: {فمن تاب من بعد ظلمه}. [المائدة/ 39]: "الحد كفارة له". وقال في قوله تعالى: {سماعون لقوم آخرين}. [المائدة/ 42]: "المنافقون، يقول: سماعون لليهود".
وقال في آية: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}. [المائدة/ 93]، قال: "فيمن كان يشرب الخمر ممن قتل ببدر وأحد".
وقال في آية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت}...الآية [المائدة/ 106]: قال: "وهو أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران، فلا يحضر غيرهما، فإن رضي ورثته بما شهدوا عليه من تركته فذلك، ويحلف الشاهدان أنهما لصادقان، {فإن عُثر}: يقول: وُجد لطخ أو لبس أو تشبيه؛ حلف الأوليان من الورثة واستحقا، وأبطلا أيمان الشاهدين الأولِين".
الفصل الرابع: التأويل
فسر قوله تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم}. [البقرة/ 14]. بأنهم: أصحابهم المشركون والمنافقون.
وفسر آية: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}. [البقرة/ 16]: يقول: "آمنوا ثم كفروا. {فلما أضاءت ما حوله}. [البقرة/ 17]: قال: "أما إضاءة النار؛ فإقبالهم إلى المؤمنين وإلى الهدى، وأما ذهاب نورهم: فإقبالهم إلى الكافرين وإلى الضلالة، وإضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل".
وفسر آية: {والله محيط بالكافرين}. [البقرة/ 19]: "أي جامعهم في جهنم".
وقال في آية: {وعلم آدم الأسماء كلها}. [البقرة/ 31]، قال: "يعني: ماخلق الله كله". {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء}: "بأسماء هذه التي حُدث بها آدم". [البقرة/ 31]. قال في آية: {قل هل يستوي الأعمى والبصير}. [الأنعام/ 50]: "الأعمى: يعني الضال. والبصير: يعني المهتدي".
قال في آية: {أكابر مجرميها}. [الأنعام/ 123]: "أي: عظماءها".
وقال في آية: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم}. [الأعراف/ 16]: "يعني: الإسلام الدينَ الحق".
وقال في آية: {ثم لآتينهم من بين أيديهم}: "يعني من حيث يبصرون"، {ومن خلفهم}. [الأعراف/ 17]: "يعني: من حيث لا يبصرون".
قال في آية: {فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم}. [الأعراف/ 77]: "قال: غلوا في الباطل".
قال في آية: {والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم}. [الحشر/ 9]: "وهم الأنصار. من قبلهم: من قبل المهاجرين"...{والذين جاؤوا من بعدهم}. [الحشر/ 10]: قال: "هم الذين أسلموا نُعتوا أيضا، منهم: عبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي".
وفي آية: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى}. [الحشر/ 14]، قال: "المنافقون يخالف دينهم دين بني النضير".
وفي آية: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا}. [الإسراء/ 78]، قال: "يعني: صلاة الفجر".
الفصل الخامس: تفسيره باعتماد الإسرائيليات
وهنا أوريد تفاسيره التي يغلب على الظن أنه إنما أخذهامن كتب بني إسرائيل ومن أخبارهم: فسر آية: {وقولوا حطة}. [البقرة/ 58]، قال: "باب حطة باب إلياء بيت المقدس، أمر قوم موسى أن يدخلوا الباب سجدا، ويقولوا: حطة، وطؤطيء الباب ليخفضوا رؤوسهم، فلما سجدوا قالوا: حنطة".
وفسر آية: {كونوا قردة خاسئين}. [البقرة/ 65]، قال: "لم يمسخوا قردة، ولكنه كقوله: {كمثل الحمار يحمل أسفارا}. [الجمعة/ 5]".
وفي آية البقرة في سورة البقرة قال: "صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل قتله رجل، فألقاه على باب أناس آخرين، فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم، فانتفوا منه، فضرب بفخذ البقر فقام حيا، فقال: قتلني فلان، ثم عاد إلى ميتته، فقال الله: {والله مخرج ما كنتم تكتمون}. [البقرة/ 72]".
وفي آية: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا}..الآية. [المائدة/ 27]، قال: "{إذ قربا قربانا}: قال: هما ابنا آدم لصلبه: هابيل وقابيل، قرّب هابيل شاة وقابيل بقلا، فقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فقتله، فقال هابيل: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك}، أي: أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي فتبوء بهما، {فطوّعت له نفسه}، يقول: شجعته نفسه على قتله، {فبعث الله غرابا يبحث في الأرض}: يقول: غرابا حيا حفر لغراب ميت، وابن آدم القاتل ينظر إليه، ويحثو عليه التراب حتى غيبه في التراب".
وقال في آية: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا}. [الأعراف/ 129]: "قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: يا موسى؛ إن فرعون كان يكلفنا اللبن ويعطينا التبن قبل، فلما جئتنا كلفنا اللبن مع التبن. وقال موسى: يا رب؛ أهلك فرعون، حتى متى تبقيه؟. فأوحي إليه: يا موسى؛ إنهم لم يعملوا العمل الذي أهلكهم به بعد".
وقال رحمه الله: "{واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم}: حين دفنوها يلقي عليها السامري قبضة من تراب فرس جبريل عليه السلام، فصارت: {عجلا جسدا له خوار}". الآية 148 من سورة الأعراف.
الخاتمة في خلاصة الموضوع
عن طريق استعراض جملة من تفسيرات الإمام مجاهد وما قيل عنه يتبين لنا أنه – رحمه الله تعالى – كان إماما من أئمة التفسير، واسع الاطلاع عميق الغور. وأكثر ما كان يفسر به هو التفسير اللغوي للقرآن، وكثيرا ما يذكر أصل الكلمة واشتراكه مع لغات غير اللغة العربية. ثم التفسير بالرأي – مع عدم مقارنتنا لما فسره بالرأي مع تفاسير النبي صلى الله عليه وسلم – وكذلك كان كثيرا ما يركب متن التأويل، وهو حرْفُ معنى ظاهر اللفظ إلى معنى آخر من جنسه. وهو فيما يتعلق ببني إسرائيل وأخبارهم لا يتردد في النقل عن أخبارهم ورواياتهم فيما لا يخالف الإسلام، وذلك أخذا بالحديث الشريف: "خذوا عن بني إسرائيل ولا حرج". أما جانب التفسير بالمأثور، فقد لاحظت مبدئيا أنه قليل، إذ قلما يعزو الإمام مجاهد آراءه إلى مصادرها من أقوال الصحابة أو مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان موافقا لها في العموم.
وإلى هنا انتهى – بحمد الله تعالى – ما رمت استعراضه من منهج تفسير هذا الإمام المفسر الكبير، وأسأل الله تعالى أن يكون وفقني لما خلصت إليه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com
=================
بقلم: محمد حمزة الشريف الكتاني |