التفسير التربوي لسورة البقرة
سورة البقرة أطول سور القرآن على الإطلاق، صحبت المجتمع المسلم من أول الهجرة, حيث إن بها آيات هي من أوائل ما نزل بالمدينة, وبها أيضًا آخر آيات القرآن نزولاً على الرأي الراجح ] وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[(البقرة:281). إن هذه السورة على الرغم من طولها الذي استغرق قرابة الجزءين والنصف, وعلى الرغم من كثرة الموضوعات بها- حتى قالوا: إنها حوت ألف أمر وألف نهي وألف خبر- فسنحاول استعراض الخطوط الرئيسة فيها, فليس المراد تفسير آياتها لأن هذا الأمر لا يتسع له المقام. أولاً: السورة تبدأ في تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف: مؤمن, كافر, منافق, وتوضح الصفات الرئيسة لكل منهم مع إيجاز في وصف المؤمن والكافر نظرًا لوضوح كل منهما،و تستغرق الآيات في وصف المنافقين لشدة خطورتهم وخفائهم, فالمجتمع المدني قد ظهرت فيه هذه الفئة مع التمكين ولم تكن لتظهر في مكة حيث الاستضعاف, ولن نفصل في ذلك فقد يرد في مواضع أخرى. ثانيًا: بعد ذلك أمر موجه إلى الناس جميعًا بعبادة الله وحده: وتذكيرهم بنعمه, مع تحديهم أن يأتوا بسورة من مثل سوره, ثم ذكر عذاب الكفار ونعيم المؤمنين, ويلي ذلك التعجب من أمرهم ] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[(البقرة:28). ثالثًا: بداية خلق الله لآدم: والحكمة التي خلق من أجلها ] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً[ (البقرة: 30) أي: يخلف بعضهم بعضًا لعمارة الأرض بعبادة الله, ومن هنا تظهر أهمية الخلافة وشروط الخليفة, لأن الأرض إذا سيطر عليها أهل الفساد أفسدوها ]وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ` وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ [(البقرة:206,205). إن الإنسان ليس خليفة لله لأن الله لا يستخلف، ولكن خليفة بمعنى أن بعضهم يخلف بعضًا. إن حقيقة هذا الاستخلاف قائمة على معنى العبودية لله في الأرض ]وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ[ (الذاريات 56) لقد سخر الله الكون له وضمن له الرزق وإن طلب منه السعي إليه, وضمن له العمر وأراه الجنة قبل الهبوط ليعلم حلاوة الجزاء, وأمره أن يقاوم وساوس الشيطان وشهوات النفس. إذًا لابد من أوصاف لهذا المستخلف في هذه الأرض. ولكن كيف يستطيع الإنسان أن يعرف الطريق الذي يرضي الله تعالى ويحقق الهدف من وجوده على الأرض؟ هنا تتولي العناية الإلهية ذلك من جوانب ثلاثة: (1) تفضل الله عليه بتعليمه ما هو في حاجة إليه:]وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا[ (البقرة: 31) ]الرَّحْمَنُ ` عَلَّمَ القُرْآنَ ` خَلَقَ الإِنسَانَ ` عَلَّمَهُ البَيَانَ[ (الرحمن:1- 4) فجعل خلقه بين عِلمْين منّ بهما عليه. (2)توفيق الله للإنسان: بتعريفه بنفسه الأمارة بالسوء وعدوه فاكتشف وجود المعصية بين جنبيه, وأدرك عداوة الشيطان له, ووسائله من الوسوسة والتزيين, وفتح له باب النجاة بالتوبة ]فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ` وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ (البقرة:39,36). (3)وضوح القانون المحتوي على المنة العظيمة من الله الذي خلقه: ]أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ[ (الملك: 14) فما تركه ليكشف الطريق وما هو بقادر, بل أنزل إليه الهدى وبينه بعلم وحكمة على ألسنة رسله ]َفإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ` وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[ (البقرة:38) رابعًا: الحديث عن بني إسرائيل: وهنا نقف أمام مجموعة من الملاحظات: (1)أن القرآن عادة إما أن يخصص سورة للحديث عن أمة من الأمم أو نبي من الأنبياء فقط كسورتي (يوسف والقصص) عن موسي u وأمته, وسورة (نوح) وهذا قليل, أما السور الطوال بخاصة ومعظم السور فقد حوت إشارة إلى بعض الأنبياء وصراعهم مع أممهم بين إطالة واختصار يختلف من سورة إلى أخرى, لكنا مع أول سورة طويلة نجد أن الحديث ينتقل من آدم u إلى بني إسرائيل ولم يتعرض للأنبياء السابقين كنوح وهود وصالح ولوط. (2)إن الحديث عن بني إسرائيل في الجزء الأول من القرآن- والذي استغرق أكثر من مائة آية - له محاور أربعة: (أ )إظهار المنن الإلهية التي منَّ الله بها عليهم: ومقابلتهم إياها بالجحود والنكران ]اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ[ (البقرة:4) ]وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[(البقرة:57) ]وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ[ (البقرة:60). (ب)إن بني إسرائيل اختلت لديهم جميع أركان العقيدة: فانحرفوا كليًا عن العقيدة الحقة، يتضح ذلك في الآتي: بالنسبة للإيمان بالله: فئة جعلت لله ولدًا: ]وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ[ (البقرة:116)، والبعض الآخر عبد العجل من دون الله: ]ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ[ (البقرة:92)، ]وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[ (البقرة:93). وبالنسبة للملائكة: كرهوا جبريل وغيره من الملائكة: ]مَن كَانَ عَدُوًا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [(البقرة:97). وبالنسبة لكتب الله: بدلوا وحرفوا واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً: ]فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ[(البقرة:79) فتحريف ثم تجرؤ ]خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا[ (البقرة:93). أما سلوكهم ] يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[ (البقرة:75). ويكشف القرآن عن أحوالهم مع الأنبياء الذين بعثوا فيهم ]أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُـكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ[(البقرة:87)، وقالوا لنبيهم ]لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً[ (البقرة:55) وقالوا ]أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ[ (البقرة:672). وبالنسبة للدار الآخرة: ]وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[ (البقرة:80)، ]قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[(البقرة:94-95)، ]وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ[ (البقرة:111). (ج)القرآن لم يتعرض لسير الأمم السابقة: حتى لا يتفرق الأمر من البداية مع الأمة الجديدة, فَقَصَّ عليهم قصة الأمة السابقة عليهم مباشرة, ولهذا أيضًا لم يشمل الحديث عن بني إسرائيل الصراع مع فرعون وإيمان السحرة لأن هذا ليس هو السبب في إبعادهم عن التشرف بحمل الأمانة, وإنما كان الحديث عن استبدالهم لأركان العقيدة وتضييعها على النحو الذي بيناه, فلما انحرفوا عن العقيدة انحرافًا كاملاً وكليًا كان الاستبدال وكانت الأمة الكريمة وكان تحويل القبلة وكان وصف الله اليهود بقوله: ]سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ[ (البقرة:142). خامسًا: كشف حقيقة بني إسرائيل: قبل أن نترك الجزء الأول نجده بيمضي في وصف أمة بني إسرائيل وكشف حقائقها في وضوح حتى تتضح الصورة بكل معالمها، فقد كرهوا الإرشاد إلى الطريق، كرهوا الحق الذي يعلمونه فلم يقيموه ولم يؤمنوا بمن جاء به ]وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ[ (89) ]وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ` وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا[ (101-102). ثم تأتي هذه الآية الجامعة لبيان موقفهم من الرسول الخاتم r ]وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى[ (120) ويشتمل هذا الجزء على تحذير الأمة الجديدة من هذه الأمة الحانقة الحاقدة ]أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل ` وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[(البقرة 108-109). ولا ينتهي الجزء الأول حتى توصف هذه الأمة مرتين بقوله تعالى: ] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[(141). فليس النسب الجنسي لآدم هو الأساس ولكن النسب الاعتقادي هو الأساس, فهذه الأمة حرفت دين الله بالكلية بعد أن فضلها على العالمين في زمانها، فلما استَبدلت استُبدلت بها أمة سيد المرسلين محمد r. إن هذا الانحراف الكامل عن العقيدة بعبادة العجل،والسخرية من الأنبياء واعتمادهم للتلمود كتابًا فوق كل كتاب وغلظة قلوبهم حتى عرف عنهم أنهم قتلة الأنبياء، وتحريفهم لكتبهم حتى ألغوا ذكر الجنة والنار مما يسمونه العهد القديم، كل هذا كان سببًا في انتقال الريادة والمسئولية إلى الأمة الجديدة ولكنها ليست تشريفًا فقط، بل هي تكليف. وفى الجزء الثاني من المصحف الشريف يتوجه النداء إلى الأمة الجديدة القائمة على أمر العمارة في الأرض. أولاً: تحويل مهمة الاستخلاف من بني إسرائيل إلى أمة (محمد) r: يبدأ الجزء الثاني وما بقي من السورة الكريمة بالحديث عن تحويل القبلة ولكن مما يشد الانتباه: 1- قوله تعالي ]سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ[ وصف لو تدبره كل مسلم لعلم حقيقة بني إسرائيل، ومن العجب أن ناسًا بيننا يقولون: إن أبناءهم ليسوا كأسلافهم بالأمس، ولعمر الله إنه تلبيس الحق بالباطل، بل إن أحفادهم في هذه الأيام أشد سوءًا ونكاية ومكرًا وخداعًا من أسلافهم. 2- وتسوق الآيات العشر الأول قصة تحويل القبلة، ولكن الآية الثانية تخرج من السياق ظاهرًا وإن كانت في الحقيقة ليست خروجًا، ولكنها تؤكد المعني الذي تشير إليه, وهو أن قيادة الاستخلاف في الأرض كانت في بني إسرائيل فلما كفروا وبدلوا وغيروا سلمت الأمانة للأمة الجديدة ] وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[ (143)أمة الوسطية وهو العدل, وسط في طباعها وسلوكها وتشريعاتها. بل إن الأمة سوف تشهد لجميع الأنبياء السابقين إذا أنكرت الأمم التي بعثوا فيها أنهم بلغوا الأمانة وأدوا الرسالة, فتشهد لهم بما شهد لهم الله في كتابه الكريم. روي البخاري ومسلم أن رسول الله r- فيما معناه- مر بجنازتين فشهد الناس لإحداهما خيرًا وللأخرى بالشر. فقال r فيهما « وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض ». وقال r « أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة, قلنا واثنان؟ قال: واثنان ولم نسأله عن الواحد ». ثانيًا: إرشاد الأمة الجديدة والتشريع لها: إن باقي الجزء الثاني أخذ في توضيح التشريعات لهذه الأمة ليرشدها إلى واجبها في الأرض ولكن الآيات قبل بداية التفصيل بالتكاليف جاءت بالأسس المعينة للقيام بالأمانة. نجد ذلك في قوله تعالى: ]فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ` يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ` وَلاَ تَقُولُوا لِمْن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ` وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ` الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ` أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ [(152-157). إن الطريق يؤدي إلى الشهادة والابتلاء. ولكن من المعينات: الذكر والشكر والصلاة والصبر والاسترجاع؛ يأتي قول الحق تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» قال عمر بن الخطاب: نعم العدلان ونعمت العلاوة ] الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[ فنعم العدلان] وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ[ نعمت العلاوة، « ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته واخلفه خيرًا منها». وبعد أن ذكرت الآيات بعضًا من الأسس المعينة على القيام بأعباء الدعوة إلى الله بدأت في ذكر بعض من تفصيلات التشريع: في العبادات (الصوم, والاعتكاف, والحج, والصلاة,). في الأطعمة (تحريم الميتة, والدم, ولحم الخنزير, وما أهل لغير الله به, والحديث عن الخمر) في العقوبات (القصاص). في المعاملات (الوصية, الجهاد, الإنفاق, صلة الأرحام, أحكام حول النكاح والطلاق والنفقة والرضاع, وأحكام عن الحيض, والأيمان والإيلاء, والعدة, والربا, والدْين, والرهن). في السلوكيات (الدعاء, التحذير من الفتنة, عدم السخرية من الفقراء). وهكذا أخذت السورة قي رعاية الأمة الجديدة بعد أن أزاحت الأمة الغابرة- أمة بني إسرائيل- التي بدلت شرعة الله, وقد حذر الله الأمة اللاحقة من السير على طريق بني إسرائيل. وفي وسط هذا كله نعيش مع بعض الآيات التي لها خصائص نرشد إليها: (1)الآية الجامعة لأسس أركان الدين في العقيدة: والتي أشارت إلي بعض أسس الأخلاق والعبادات والمعاملات ]لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ[ (177). (2)الآيات (202- 207) تكشف نفوس المنافقين والفاسقين وتوضح خفايا ما بهم من باطن تغطيه قشرة زائفة من مظهرية يجب ألاّ يغتر بها أهل الإيمان, إنها الفئة التي تخدع الغير بكلامها, وهم يؤكدون زيف كلامهم كإبليس من قبل ]وقاسمهما[فإذا مُكِّن هذا النوع في الأرض عمل على عكس قضية الاستخلاف القائمة على إعمار الدنيا بالدين والتمكين لشرعة الله. إلى هذه الفئة تأتي إشارة القرآن تلميحًا إلى بني إسرائيل ]وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ[ بالأفلام الفاضحة والإجهاض ونشر الزنا والربا ]وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [(205) فإذا ما أردت تذكيره وتنبيهه عظم الشيطان نفسه ]وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ[ (206) قال رسول الله r: « أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم » وقال أبو الدرداء: «من كثر كلامه كثر كذبه ومن كثر حلفه كثر إثمه ومن كثرت خصومته لم يسلم دينه» وقال ابن مسعود: «من أكبر الذنب عند الله أن يقول الرجل لأخيه اتق الله فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني! ولكن الفائز كما قال الله تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[(207). وهي وإن كانت نزلت في صهيب t ولكن كلماتها عامة لكل مسلم يقول الحق عند الظالم فيأبى ذلك إلا قتله فيكون مع سيد الشهداء. (3) وتلفت الآيات نظر الأمة التي ألقي إليها قيادة البشرية إلى أن طريق الدعوة ليس مفروشًا بالرياحين في هذه الدنيا, لكن الصعوبات والعقبات تكتنفه ]أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[(214), قالوا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: « إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط من الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه, ثم قال: والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ». (4)قصة طالوت وجالوت: أمل للأمة الجديدة الوليدة ولكل فئة مستضعفة تمر على الأرض في أي مرحلة من مراحل إعادة الخلافة ]كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[ (249). (5)أعظم آي القرآن آية الكرسي: قال النبي r لأبي بن كعب «أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي. قال r: ليهنك العلم أبا المنذر». (6)سماحة الإسلام: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ[(256). (7)التحذير من الربا: هذه القضية الاقتصادية التي توعد القرآن أصحابها بأشد وعيد ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ` فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ[ (278) الربا الذي يتسبب في التضخم والفساد الاقتصادي والاستغلال, إن الربا الذي تعيشه البشرية الآن هو السبب في كل هذه المفاسد الاقتصادية التي تطحن الشعوب. أخيرًا: سر تسمية السورة بالبقرة: سورة البقرة قبل أن نودعها تحذر من منهاج بني إسرائيل حين قال الله لهم ]خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا[(93). ولعل هذا هو السبب في تسميتها بسورة البقرة؛ رغم ما فيها من آيات ومواضيع قد يظن أنها أولي بالتسمية بها, ولكن الله ارتضي أن تسمى سورة البقرة, وكأن هذا إشارة إلى قانون الاستخلاف في المعاملة مع التشريعات المنزلة والتوجيهات الرشيدة. فأمة بني إسرائيل نظروا إلى الأمر الإلهي فقالوا ]سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا[ ونظروا إلى موسي u لهم فقالوا ]أَتَتَّخِذُنَا هُزُوا[ فحذر القرآن بتسمية السورة من أن نسير على دربهم وهو منهج المجادلة وعدم الطاعة وحين أنزل قوله تعالى ] لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ[ (284)شق ذلك على الصحابة وقالوا كلفنا بما نطيق: الصلاة والصيام، واليوم نكلف بما لا نطيق, فحذر النبي r من السير على طريق بني إسرائيل حين قالوا سمعنا وعصينا وقال لهم قولوا سمعنا وأطعنا ]وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ[(285) فنزل القرآن مؤيدًا ما قالوه وأتى بدعوات من الله, علَّم الله الأمة كيف يدعونه بها, وكان هذا الكنز النازل للأمة من تحت عرش الرحمن, وكانت هذه المنة التي لم تنزل على بني إسرائيل من قبل ]آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ` لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ[(285-286). وهكذا نرى سورة البقرة الكاشفة عن أسباب استبدال الله لبني إسرائيل لأنهم نكثوا العهد واستبدلوا العقيدة وقتلوا الأنبياء, وجاءت الأمة الجديدة لتقوم بدور الاستخلاف في الأرض. على هذه الأمة أن تعلم أن الأمر إنما هو عهد ووعد، وأن الخلافة لها شروطها, وأساسها هو تنفيذ شرع الله والتمسك بكتابه وما أنزل على رسوله ] فَمن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ` وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[. تعيش البشرية الآن في الفساد الاعتقادي؛ فأكثر سكانها يكفرون بالله، ويعيشون في الفساد الأخلاقي من أشرطة الخلاعة والمجون والسكر والمخدرات، وشريعة الغاب وقتل الأمم بعضها لبعض والجوع الذي يقتل شعوبًا كثيرة، وأصحاب حضارات المادة والشهوات لا يريدون إطعامهم ويقذفون بالطعام في البحار أو يمتنعون عن الزراعة. كل هذا في حضارة جاهلية. نقول: إن العالم في انتظار فارس الإسلام ليخرجهم بالقرآن من الظلمات إلى النور, إلى العدل والرحمة, إلى الوحدانية والتوحيد, إلى ظلال اليوم الآخر ]وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا[(الإسراء 51).
الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com
==============
الكاتب: الشيخ // عبد الخالق حسن الشريف |