الوحدة الموضوعية في سورة الرحمن
هذه السورة المكية ذات نسق خاص ملحوظ, إنها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير، وإعلام بآلاء الله الباهرة الظاهرة، في جميل صنعه، وإبداع خلقه؛ وفي فيض نعمائه؛ وفي تدبيره للوجود وما فيه؛ وتوجه الخلائق كلها إلى وجهه الكريم, وهي إشهاد عام للوجود كله على الثقلين... الإنس والجن المخاطبين بالسورة على السواء، في ساحة الوجود، على مشهد من كل موجود، مع تحديهما إن كانا يملكان التكذيب بآلاء الله، تحدياً يتكرر عقب بيان كل نعمة من نعمه التي يعددها ويفصلها، ويجعل الكون كله معرضاً لها، وساحة الآخرة كذلك. ورنة الإعلان تتجلى في بناء السورة كله، وفي إيقاع فواصلها, تتجلى في إطلاق الصوت إلى أعلى، وامتداد التصويت إلى بعيد؛ كما تتجلى في المطلع الموقظ الذي يستثير الترقب والانتظار لما يأتي بعد المطلع من أخبار, الرحمن, كلمة واحدة, مبتدأ مفرداً, الرحمن كلمة في معناها الرحمة، وفي رنتها الإعلان، والسورة بعد ذلك بيان للمسات الرحمة ومعرض لآلاء الرحمن. ويبدأ معرض الآلاء بتعليم القرآن بوصفه المنة الكبرى على الإنسان, تسبق في الذكر خلق الإنسان ذاته وتعليمه البيان, ثم يذكر خلق الإنسان، ومنحه الصفة الإنسانية الكبرى, البيان. ومن ثم يفتح صحائف الوجود الناطقة بآلاء الله, الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء المرفوعة, والميزان الموضوع, والأرض وما فيها من فاكهة ونخل وحب وريحان, والجن والإنس, والمشرقان والمغربان, والبحران بينهما برزخ لا يبغيان، وما يخرج منهما وما يجري فيهما . فإذا تم عرض هذه الصحائف الكبار, عرض مشهد فنائها جميعاً, مشهد الفناء المطلق للخلائق، في ظل الوجود المطلق لوجه الله الكريم الباقي, الذي إليه تتوجه الخلائق جميعاً، ليتصرف في أمرها بما يشاء. وفي ظل الفناء المطلق والبقاء المطلق يجيء التهديد المروع والتحدي الكوني للجن والإنس: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ). ومن ثم يعرض مشهد النهاية, مشهد القيامة, يعرض في صورة كونية, يرتسم فيها مشهد السماء حمراء سائلة، ومشهد العذاب للمجرمين، والثواب للمتقين في تطويل وتفصيل. ثم يجيء الختام المناسب لمعرض الآلاء: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ). إن السورة كلها إعلان عام في ساحة الوجود الكبير, إعلان ينطلق من الملأ الأعلى، فتتجاوب به أرجاء الوجود, ويشهده كل من في الوجود وكل ما في الوجود.
الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com
==============
المرجع: في ظلال القرآن. |