قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 1- 8] أولاً: نزلت هذه السورة الكريمة بعد سورة الضحى؛ وكأنها تكملة لها، فيها ظل العطف الندي، وفيها روح المناجاة للحبيب، وفيها استحضار مظاهر العناية، واستعراض مواقع الرعاية، وفيها البشرى باليسر والفرج، وفيها التوجيه إلى سرِّ اليُسْر وحبل الاتصال الوثيق. وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها، ومن العقبات الوعرة في طريقها، ومن الكيد والمكر المضروب حولها.. توحي بأن صدره صلى الله عليه وسلم كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة, وأنه كان يحس العبء فادحًا على كاهله، وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد وزاد ورصيد.. ثم كانت هذه المناجاة الحلوة, وهذا الحديث الودود من المحِبِّ لحبيبه ! ثانيًا: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة العامة: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ بالسكون، وقرأ أبو جعفر المنصور: ﴿أَلَمْ نَشْرَحَ﴾، بفتح الحاء، وخرَّجه ابن عطيَّة وجماعة على أن الأصل: ألم نشرحَنْ، بنون التوكيد الخفيفة، فأبدل من النون ألفا، ثم حذفها تخفيفًا، وقال غير واحد: لعل أبا جعفر بيَّن الحاء، وأشبعها في مخرجها، فظن السامع أنه فتحها. وفي «البحر المحيط» لأبي حيان: أن لهذه القراءة تخريجًا أحسن مما ذكر، وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بـ (لم)، فقد حكى اللحياني في «نوادره» أن منهم من ينصب بها، ويجزم بـ (لن) عكس المعروف عند الناس، وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد: في كل ما هَمَّ أمضَى رأيَه قدما ولم يشاورَ في الأمر الذي فعلا وخرَّجها بعضهم على أن الفتح لمجاورة ما بعدها؛ كالكسر في قراءة: ﴿الْحَمْدِ للّهِ﴾ [الفاتحة: 2] بالجر، وهو لا يتأتى في بيت عائشة السابق. ثالثًا: وفي المراد بهذا الشرح على ما ذكر قولان: أحدهما: أن المراد به شقُّ صدره الشريف عليه الصلاة والسلام، روي أن جبريل عليه السلام أتاه، وشق صدره، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي، ثم ملأه علمًا وإيمانًا، ووضعه في صدره. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه فسره به، وهو ظاهر صنيع الترمذي؛ إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة، وحمله على ذلك الشق ضعيف عند المحققين. ثانيهما: أن المراد به شرح صدره صلى الله عليه وسلم للإسلام، وهو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل هو كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات، وإعلامه برضى الله عنه، وبشارته بما سيحصل للدّين، الذّي جاء به من النصر، وقيل: المراد به تنوير صدره صلى الله عليه وسلم بالحكمة، وتوسيعه بالمعرفة، لتلقي ما يوحى إليه قال الله تعالى: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ [الزمر: 22]. وروي أنهم قالوا: يا رسول الله أينشرح الصدر؟ قال: "نعم"، قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: "التجافي عن الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله"، وتحقيق القول فيه: أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والاستعداد للموت. ومنهم من فسر الشرح بانفتاح صدره عليه الصلاة والسلام، حتى أنه كان يتسع لجميع المهمات، لا يقلق، ولا يضجر، ولا يتغير، بل هو في حالتيْ البؤس والفرح منشرح الصدر، مشتغل بأداء ما كلف به، والشرح التوسعة، ومعناه: الإراحة من الهموم، والعرب تسمِّي الغمَّ والهمَّ: ضيقَ صدرٍ؛ كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر: 97]. والأصل في الشرح: فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض، ومنه: الشريحة من اللحم، ثم شاع استعماله في الكشف والبسط، وإيضاح الغامض والخافي من المعاني، ومنه قولهم: شرَح المشكلَ، أو الغامض من الأمر: فسَّره، وبسطه, وأظهر ما خفي من معانيه، وشرح الكتاب: أوضحه، وكذلك شاع في رضى النفس وسرورها بعد ضيق ألمَّ بها، فقيل: شرح الله صدره بكذا، أي: سرَّه به، ومنه: شرح الله صدره للإسلام، فانشرح، أي: انبسط في رضًا وارتياح للنور الإلهي، والسكينة الروحية، قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ [الأنعام: 125]. رابعًا: والجمهور على القول بأن قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ استفهامٌ مرادٌ به التقرير؛ كالاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172] وقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر:36]. وسترى أن هذا الاستفهام لا يفيد تقريرًا، وإنما يفيد إثباتًا وتذكيرًا، خلافًا للاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 172] وقوله:﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36] ونحوهما وبيان ذلك: 1- أن الأصل في الكلام الإثبات، ويقابله النفي، تقول: شرح الله صدر فلان، فإذا نفيت ذلك قلت: ما شرح الله صدر فلان، ولم يشرح الله صدره، ويسمَّى كلٌّ منهما خبرًا: الأول: مثبت، والثاني: منفي، وتختصُّ همزة الاستفهام من بين أدوات الاستفهام بدخولها على الخبر المثبت؛ كقولك: أشرحَ الله صدر فلان؟ وعلى الخبر المنفي؛ كقولك: أَمَا شرح الله صدر فلان؟ وألم يشرحِ الله صدر فلان؟ ويسمَّى كلٌ منهما استخبارًا، أو استفهامًا، والغرض منهما: طلب خبر ما ليس عند المستخبر، أو السائل، وهذا ما يعبَّر عنه بطلب الفهم، ومنهم من فرق بين الاستخبار، والاستفهام بأن ما سبق أولاً، ولم يفهم حق الفهم، كان استخبارًا، فإذا سألت عنه ثانيًا، كان استفهامًا. حكاه ابن فارس في فقه العربية. 2- إذا قلت: ألم يشرح الله صدر فلان؟ أو قلت: أليس زيد قائمًا ؟ فإن ذلك يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون الاستفهام على أصله من طلب الفهم، والثاني: أن يكون مرادًا به الإثبات، أو الإيجاب؛ لأن الهمزة للإنكار، والإنكار نفي، ونفي النفي إثبات، أو إيجاب، وحينئذ يكون الغرض منه إما التذكير، أو التوبيخ، أو العتاب، أو التحذير، أو التنبيه، أو التعجب، أو السخرية والتهكم، أو التوقُّع والانتظار، أو نحو ذلك من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام.. ولا يكون تقريرًا إلا بوجود قرينة تدل عليه. وعلى معنى الإثبات والتذكير يحمل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾؟ قال مكي في «مشكل إعراب القرآن» عند إعراب الآية: الألف نقلت الكلام من النفي، فردته إيجابًا، والغرض منه: التذكير، والمعنى: قد شرحنا لك صدرك، وإلى هذا القول ذهب الزمخشري، فقال: استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه؛ فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، فنبَّه على ذلك، وذكَّر به. ولو كان المستفهِم - هنا - غير الله جل وعلا، لجاز حمل الاستفهام على أصله من طلب الفهم، وهذا أحد الأدلة، التي تحول بينه، وبين أن يكون استفهامًا تقريريًّا. ومما يحمل على الإثبات مع التنبيه والتعجب قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ [البقرة: 243] ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: 45] ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: 1] فهذا إثبات مصحوب بالتنبيه والتعجب، والمعنى في ذلك كله: انظر بفكرك في هذه الأمور، وتنبَّه واعجب. وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الحديد: 16] إثبات مصحوب بالعتاب، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية، إلا أربع سنين. وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ﴾ [المرسلات: 16- 18] إثبات مصحوب بالتحذير للآخرين، وتخويفهم بإهلاك الأولين منهم بسبب كفرهم، ومما يحمل على طلب الفهم، والإثبات مع الافتخار؛ قوله تعالى حكاية عن فرعون لعنه الله: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف: 51] فإنه يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا بأن يكون لا يعلم، ويحتمل أن يكون عالمًا؛ ولكنه أورد سؤاله على سبيل الإثبات للافتخار. ومما يحمل على طلب الفهم، والإثبات مع الإنكار قوله تعالى حكاية عن لوط عليه السلام: ﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾ [هود: 78] أي: رجل واحد يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح ويمنعكم منه؛ فإنه يحتمل أن يكون استفهامًا حقيقيًّا، ويحتمل أن يكون إثباتًا، الغرض منه الإنكار. 3- إذا قلت: أليس زيد بقائم، كان قولك هذا إثباتًا، الغرض منه التقرير، ولا يجوز أن يصرف إلى معنى آخر من المعاني السابقة. ومنه قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ [الأعراف: 172] وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا﴾ [الأحقاف:34)، وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] وفي الحديث: من قرأ (والتين) إلى آخرها، فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. فمعنى الاستفهام في هذه الآيات ونحوها على الإثبات، والغرض منه التقرير، أما الإثبات فمستفاد من دخول الهمزة على النفي، وأما التقرير فمستفاد من دخول الباء على خبر المنفي، لا من دخول الهمزة على أداة النفي، خلافًا للمشهور. فالباء - هنا - هي القرينة الدالة على أن المراد من هذا الكلام: التقرير؛ ولهذا لا يجوز أن يحمل الكلام مع هذه الباء على طلب الفهم؛ كما جاز ذلك في الأمثلة المذكورة في الفقرة الثانية، كما لا يجوز في الأمثلة السابقة إلا على إسقاط الباء. وهذا هو سر دخول هذه الباء على خبر المنفي، وهو من الأسرار الدقيقة، التي لا يكاد يفطَن إليها في البيان القرآني المعجز. 4- إذا كان العلماء لا يفرقون بين قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح:1] ونحوه، وقوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ [الأعراف: 172] ونحوه، فلأن معنى التقرير - عندهم - هو الإثبات، ولا دليل لهم على ذلك سوى أن كلاًّ منهما يجاب بـ (بلى) في الإيجاب، كما في آيتي الشرح والأعراف السابقتين. وقد استدل الزركشي على ذلك بقوله: والذي يقرر عندك أن معنى التقرير: الإثبات قول ابن السراج: فإذا أدخلت على: (ليس) ألف الاستفهام، كانت تقريرًا، ودخلها معنى الإيجاب، فلم يحسن معها أحد؛ لأن أحدًا، إنما يجوز مع حقيقة النفي. لا تقول: أليس أحد في الدار؛ لأن المعنى يؤول إلى قولك: أحد في الدار، وأحد لا تستعمل في الواجب. والإيجاب هو الإثبات، وبينه، وبين التقرير فرق لا بدَّ من مراعاته، والوقوف عنده، ويتلخص في أن الإثبات يكون جوابًا للإنكار، والتقرير يكون جوابًا للجحد. والجحد - كما جاء في معجم الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري- أخصُّ من الإنكار؛ وذلك أن الجحد إنكار الشئ الظاهر والشاهد قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [الأعراف: 51] فجعل الجحد مما تدل عليه الآيات، ولا يكون ذلك إلا ظاهرًا، وقال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [النحل: 83] فجعل الإنكار للنعمة؛ لأن النعمة قد تكون خافية. ويجوز أن يقال: الجحد هو إنكار الشئ مع العلم به، والشاهد قوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل: 14] فجعل الجحد مع اليقين، والإنكار يكون مع العلم، وغير العلم. فإذا ثبت ذلك، فإنه لا يجوز حمل الاستفهام في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ ونحوه على استفهام التقرير؛ لأن التقرير هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده، فجحَده بعد أن علم به، وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون جاحدًا. 5- وقد كان عدم تفريقهم بين الإثبات، والتقرير سببًا في اختلافهم في معنى الاستفهام الداخل على النفي في كثير من آي القرآن الكريم، ومن الآيات التي اختلفوا فيها قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾ [العنكبوت: 68] قال الزمخشري: أليس: تقرير لثوائهم في جهنم، وحقيقته: أن الهمزة همزة إنكار، دخلت على النفي، فرجع إلى معنى التقرير. وقال أبو السعود، وتبعه الألوسي: تقرير لثوائهم فيها؛ كقول من قال: ألستم خير من ركب المطايا، أي: ألا يستوجبون الثواء فيها، وقد فعلوا ما فعلوا من الافتراء على الله تعالى، والتكذيب بالحق الصريح، أو إنكار، واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب، مع علمهم بحال الكفرة، أي: ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين، حتى اجترءوا هذه الجراءة. وكون الاستفهام - هنا - للتقرير يتناقض مع كونه للإنكار، والجمهور على أنه للتقرير، والتقرير - كما تقدم - هو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده، فهل كان الكافرون مقرين ومعترفين بأن مستقرَّهم النار؟ فإذا كان الأمر كذلك، فالمراد من هذا الاستفهام التقرير؛ وإلا فهو متضمِّن لمعنى الوعيد والتحقير. وسمَّاه السيوطي في «الإتقان» بالاكتفاء، ومثل له بقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزمر: 60] أي: أليست جهنم كافية لهم سجنًا وموئلا لهم، فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق؟ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 106] فقد ذهب الزمخشري إلى أن الاستفهام فيه للتقرير. وقال الزركشي: الكلام مع التقرير موجب، وجعل الزمخشري منه: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 106] وقيل: أراد التقرير بما بعد النفي، لا التقرير بالنفي، والأوْلى أن يجعل على الإنكار أي: ألم تعلم أيها المنكر للنسخ، وذهب الفخر الرازي إلى أن المراد بهذا الاستفهام: التنبيه، وذهب ابن عطية إلى أن ظاهره الاستفهام المحض، ورده أبو حيان قائلاً: بل هذا استفهام معناه: التقرير. وأقرب الأقوال إلى الصواب هو قول الفخر الرازي، ونصَّه الآتي: أما قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ فتنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته، وأنه لا دافع لما أراد، ولا مانع لما اختار. ومما يبعد أن يكون الاستفهام في هذه الآيات، ونحوها للتقرير أنه يجوز حمله في كل منها على حقيقته من طلب الفهم، وذلك لا يجوز في استفهام التقرير. خامسًا: وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، بصيغة الجمع، ولم يقل: ألم أشرح لك صدرك، بصيغة المفرد، والجواب - كما قال الفخر الرازي: إما أن يحمل على نون التعظيم، فيكون المعنى: أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة، لا تصل العقول إلى كنه جلالتها، وإما أن يحمل على نون الجميع، فيكون المعنى؛ كأنه تعالى يقول: لم أشرحه وحدي؛ بل أعملت فيه ملائكتي، فكنت ترى الملائكة حواليك وبين يديك حتى يقوى قلبك، فأديت الرسالة، وأنت قوي القلب، ولحقتهم هيبة، فلم يجيبوا لك جواباً، فلو كنت ضيق القلب، لضحكوا منك، فسبحان من جعل قوة قلبك جبناً فيهم، وانشراح صدرك ضيقاً فيهم. وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، وكان يمكن أن يقال: ألم نشرح صدرك، بدون ﴿لَكَ﴾؛ ولكن جيء به زيادة بين فعل الشرح، ومفعوله لفائدتين: الفائدة الأولى: هي سلوك طريقة الإبهام، ثم الإيضاح، للتشويق، فإنه سبحانه، لما ذكر فعل: ﴿نَشْرَحْ﴾، عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحاً. فلما قال: ﴿لَكَ﴾، قويَ الإِبهام، فازداد التشويق، فلما قال: ﴿صَدْرَكَ﴾، أوضحوِزْرَكَ، ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ وهذا من الإطناب البليغ. قال علماء البيان: إذا أردت أن تبهم، ثم توضح، فإنك تطنب، وفائدته: إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين: الإبهام والإيضاح. أو لتمكن المعنى في النفس تمكنا زائدًا، لوقوعه بعد الطلب؛ فإنه أعز من المنساق بلا تعب. أو لتكمل لذة العلم به؛ فإن الشيء إذا علم من وجهٍ مَّا، تشوَّقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت، فإذ ما كان قد عُلِم في ذهن السامع مبهمًا، فتمكن في ذهنه كمال تمكن، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ) حصل العلم من بقية الوجوه، كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة. ومن الأمثلة على ذلك: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: 25] فإن ﴿اشْرَحْ﴾ يفيد طلب شرح شيء مَّا، و ﴿صَدْرِي﴾ يفيد تفسيره وبيانه، وكذلك: ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ [طه: 26] والمقام يقتضي التأكيد، للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد، وكذلك: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ فإن المقام يقتضي التأكيد؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم. الفائدة الثانية: أن في زيادة ﴿لَكَ﴾ تنبيه على أن منافع الرسالة عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قيل: إنما شرحنا صدرك لأجلك، لا لأجلنا، وفي ذلك تكريمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قد فعل ذلك لأجله. ومثله في ذلك قول موسى - عليه السلام: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: 25] فكأن في ذلك اعتراف من موسى- عليه السلام- بأن منفعة الشرح عائدة إليه؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يستعين بشرح صدورهم، على خلاف ملوك الدنيا، وقال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾، ولم يقل: ألم نشرح لك قلبك، مع أنه المراد هنا، ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس: 5] وكان الظاهر يقتضي أن يقال: في قلوب الناس؛ ولكن عدل عنه إلى الصدر؛ لأن الصدر - كما قال ابن قيِّم الجوزية - هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات إليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز له، ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود. ومن فهم هذا، فهم قوله تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [آل عمران: 154] فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب، فهو موسوس في الصدر، ومذهب الجمهور أن الصدر هو محل القرآن والعلم، ودليلهم على ذلك قوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 49]. وقال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان، فالشيطان يجيء إلى الصدر، الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكًا نزل فيه هو وجنده، وبث فيه الهموم والغموم، فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة. سادسًا: وقوله تعالى: ﴿وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ قراءة العامة، وقرأ أنس: حططنا وحللنا بدلاً من قوله: وَضَعْنَا، وقرأ ابن مسعود: عنك وقرك، بدلاً من قوله: (وِزْرَكَ﴾. والوضع- في اللغة - هو إلقاء الحمل على الأرض، وهو أعمُّ من الحطِّ، والوزر يقال للحمل، ويقال لثقل الذنب، وفي وضعه عنه عليه الصلاة والسلام كناية عن عصمته من الذنوب، وتطهيره من الأدناس، وعبَّر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك. وقيل: وضع الله تعالى عنه عبئه، الذي أثقل ظهره، حتى كاد يحطمه من ثقله. وضعَه عنه بشرح صدره له، فخف وهان، ووضعه بتوفيقه وتيسيره للدعوة ومداخل القلوب، وبالوحي الذي يكشف له عن الحقيقة، ويعينه على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين. وقوله تعالى: ﴿وَضَعْنَا﴾ معطوف بالواو على قوله: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾، وجاز ذلك؛ لأن الأول في معنى الإثبات، فحمل الثاني على معنى الأول، ولو كان محمولاً على لفظه، لوجب أن يقال: ونضع عنك وزرك، ومثله في ذلك قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾. وقوله تعالى: ﴿الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ﴾ صفة للوزر، قال علماء اللغة: الأصل فيه: أن الظهر إذا أثقله الحمل، سُمِع له نقيض أي: صوت خفيٌّ، والمراد بهذا النقْض: صوت الأضلاع، وهو مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أوزاره. قال النحاس: فإن قال قائل: كيف وصف هذا الوزر بالثقل، وهو مغفور له، غير مطالب به؟ فالجواب: أن سبيل الأنبياء - صلوات الله عليهم - والصالحين، إذا ما ذكروا ذنوبهم، أن يشتدَّ غمُّهم وبكاؤهم؛ فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل. سابعًا: قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ معناه: أن الله جل وعلا رفع له ذكره في الملأ الأعلى, قبل أن يرفعه له في الأرض، حين جعل اسمه عليه الصلاة والسلام مقرونًا باسمه جل وعلا ورفع له ذكره في اللوح المحفوظ, حين قدر الله سبحانه أن تمر القرون, وتكر الأجيال, وملايين الشفاه في كل مكان، تهتف بهذا الاسم الكريم, مع الصلاة والتسليم. ورفع له ذكره، حين ربطه بهذا المنهج الإلهي الرفيع. وكان مجردُ الاختيار لهذا الأمر رفعةَ ذكر، لم ينلها أحد من قبل، ولا من بعد في هذا الوجود. وليس بعد هذا الرفع رفعٌ، وليس وراء هذه المنزلة منزلة.. إنه المقام، الذي تفرد به صلى الله عليه وسلم دون سائر العالمين. وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك: لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي، وفيه حديث مرفوع، أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أتاني جبريل عليه السلام، فقال: إن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله تعالى أعلم! قال: إذا ذكرتُ، ذكرتً معي. ولا يخفى ما في هذا الرفع لذكره عليه الصلاة والسلام من لطف، بعد ذلك الوضع لأعبائه عنه. هذا الرفع، الذي تهون معه كل مشقة وتعب وعناء. وليس بعد هذا التكريم تكريم، وليس بعد هذا العطاء عطاء. ثامنًا: ومع هذا كله فإن الله تعالى يتلطف مع حبيبه المختار, ويسرِّي عنه, ويؤنسه, ويطمئنه، ويطلعه على اليسر، الذي لا يفارقه، فيقول: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾. والعسر: المشقة في تحصيل المرغوب، والعمل المقصود، وتعريفه للعهد، واليسر ضد العسر؛ وهو: سهولة تحصيل المرغوب، وعدم التعب فيه، وتنكيره في الموضعين للتفخيم والتعظيم؛ كأنه قيل: إن مع العسر يسرًا عظيمًا! والكلام وَعْدٌ له صلى الله تعالى عليه وسلم، مَسوقٌ للتسلية، والتنفيس. وقوله تعالى في الحملة الثانية: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ يحتمل وجهين من التأويل: الوجه الأول: أنه تكرير للجملة السابقة، لتأكيد معناها، وتقريره في النفوس، وتمكينه في القلوب، وهو نظير قولك: إن مع الفارس رمحًا، إن مع الفارس رمحًا، وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح؛ وذلك للإطناب والمبالغة، فعليه يكون اليسر فيها عين اليسر في الأولى، والمراد به ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يسر الدنيا مطلقًا. والوجه الثاني: أنه ليس بتكرير للأول؛ وإنما هو تأسيس، ويكون الحاصل من الجملتين: أن مع كل عسر يسرين عظيمين، والظاهر أن المراد بذينك اليسرين: يسر دنيوي، ويسر أخروي، وفي حديث ابن مسعود أنه لما قرأ: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، قال: لن يغلب عسر يسرين. قيل: معناه: أن العسر بين يسرين؛ إما فرج عاجل في الدنيا، وإما ثواب آجل في الآخرة. وقال الكرماني في «أسرار التكرار في القرآن»: قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) ليس بتكرار؛ لأن المعنى: إن مع العسر، الذي أنت فيه من مقاساة الكفار يسرًا في العاجل، وإن مع العسر، الذي أنت فيه من الكفار يسرًا في الآجل، فالعسر واحد واليسر اثنان. وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ وعدًا آخر مستأنفًا، غير الوعد الأول، قال الألوسي: واحتمال الاستئناف هو الراجح، لما علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف، وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين، وأوفاهما! والمقام - كما تقدم - مقام التسلية والتنفيس. وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه؛ إلا أنه أوثر التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته أظهر في التأسيس؛ لأن النكرة المعادة، ظاهرها التغاير، والإشعار بالفرق بين العسر واليسر. والفرق بين التأسيس، والتكرير: أن التكرير يكون بإيراد المعنى مرددًا بلفظ واحد؛ ومنه ما يأتي لفائدة، ومنه ما يأتي لغير فائدة، فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب، والغرض منه التأكيد والتأكيد هو تقرير إرادة معنى الأول، وعدم التجوُّز، أما التأسيس فيفيد معنى آخر، لم يكن حاصلاً قبل، وهو خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خير من حمله الإعادة. ولهذا قال الزمخشري في قوله تعالى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر: 3-4]: إن الثانية تأسيس، لا تأكيد؛ لأنه جعل الثانية أبلغ في الإنشاء، فقال: وفي: ﴿ثُمَّ﴾ تنبيه على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول. وهذا القول هو اختيار الحسين بن يحيى الجرجاني، ونصُّ قوله في ذلك: والصحيح أن يقال: إن الله بعث نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم مقلاًّ مخفًّا، فعيَّره المشركون بفقره، حتى قالوا له: نجمع لك مالاً. فاغتمَّ، وظن أنهم كذبوه لفقره، فعزَّاه الله، وعدَّد نعمه عليه، ووعده الغنى بقوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ أي: لا يحزنك ما عيَّروك به من الفقر؛ فإن مع ذلك العسر يسرًا عاجلاً أي: في الدنيا، فأنجز له ما وعده، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن، ووسَّع ذاتَ يده حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل، ويهب الهبات السنية، ويعدُّ لأهله قوت سنة، فهذا الفضل كله من أمر الدنيا، وإن كان خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد يدخل فيه بعض أمته، إن شاء الله تعالى. ثم ابتدأ فضلاً آخر من الآخرة، وفيه تأسية وتعزية له صلى الله عليه وسلم، فقال مبتدئًا: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾؛ فهو شيء آخر، والدليل على ابتدائه تعرِّيه من فاء، أو واو، أو غيرها من حروف النسق، التي تدل على العطف، فهذا وعد عام لجميع المؤمنين، لا يخرج أحد منه أي: إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرًا في الآخرة، لا محالة. وربما اجتمع يسر الدنيا، ويسر الآخرة، والذي في الخبر: لن يغلب عسر يسرين، يعني: العسر الواحد لن يغلبهما؛ وإنما يغلب أحدهما، إن غلب، وهو يسر الدنيا، فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء، أو يقال: إن مع العسر، وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة يسرًا، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل مع عز وشرف. وظاهر المعية في قوله تعالى: (مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ يقتضي أن يكون اليسر مصاحبًا للعسر ومقارنًا له؛ لأن ﴿مَعَ﴾ ظرف يدل على المصاحبة، ولما كان اليسر لا يجتمع مع العسر؛ لأنهما ضدان، أجيب عن ذلك بأن ﴿مَعَ) - هنا - مستعملة في غير معناها الحقيقي، وأنها مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر، أو ظهور بوادره، وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ [الطلاق: 7]. ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جالسًا، وحياله حجر، فقال عليه الصلاة والسلام: ”لو جاء العسر فدخل هذا الحجر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه، فيخرجه“، فأنزل الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا...﴾ الأيات، ولفظ الطبراني: وتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا..﴾. تاسعًا: ثم يجيء التوجيه الكريم من الله جل وعلا لمواقع التيسير, وأسباب الانشراح, ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: 7، 8] أي: إذا فرغت من عبادة - كتبليغ الوحي - فاتعب في عبادة أخرى، شكرًا لما عددنا عليك من النعم السالفة، ووعدناك من الآلاء الآنفة؛ وكأنه عز وجل، لمَّا عدَّد على نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ما عدَّد، ووعده بما وعد، وحقق له ما وعد، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، وأن لا يخلي وقتًا من أوقاته منها؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، إذا ما فرغ من عبادة أتبعها بأخرى. والفراغ في اللغة: خلاف الشُّغل، يقال: فرغ من عمله فراغًا، فهو فارغ، قال تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ﴾ [الرحمن: 31] وفسِّر بقولهم: سنقصد لكم أيها الثقلان، وقوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً﴾ [القصص: 10] قيل في تفسيره: خاليًا؛ وكأنما فرغ من لبِّها، لِمَا تداخلها من الخوف، وقيل: فارغًا من ذكره أي: أنسيناها ذكره، حتى سكنت، واحتملت أن تلقيه في اليم، وقيل: خاليًا إلا من ذكره؛ لأنه قال: ﴿إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ [القصص: 10]. وظاهر قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ﴾ يفيد أنه عليه الصلاة والسلام كان في أعمال، لم ينته منها؛ ولكن السياق لم يذكر لنا شيئًا عن تلك الأعمال، يكون متعلَّقًا للفعل ﴿فَرَغْتَ﴾ وعدم ذكره يقتضي أنه لازم أعمال، يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة، وتذليل ما يحف بها من مكاره. وعليه يكون المعنى: إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال، فأقبل على عمل آخر؛ بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وجوعه من إحدى غزواته: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. وبهذا يتبين أن المقصود بالأمر هو قوله تعالى: ﴿فَانْصَبْ﴾ أما قوله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ﴾ فتمهيد وإفادة لإِيلاءِ العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة، وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال، ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبَتْها أخرى، ولهذا قدِّم قوله تعالى: ﴿فَرَغْتَ﴾ على قوله: ﴿فَانْصَبْ﴾ وجيء بالفاء الرابطة؛ لتدل على أن ما بعدها واجب الوقوع عقب وقوع الشرط مباشرة، وعليه يكون قوله تعالى: ﴿فَانْصَبْ﴾ أمرًا بإحداث الفعل فورًا بعد حدوث الشرط من دون أي تأخير. ثم أمره سبحانه وتعالى بأن يرغب إلى ربه وحده أي: بأن يحرص بسؤاله وحده، ولا يسأل غيره تعالى؛ فإنه القادر على الإسعاف، لا غيره عز وجل: ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَارْغَبْ﴾ هو من الرَّغْبَة، والرَّغبة هي السَّعة في الإرادة، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء: 90] أي: رغبًا في رحمتنا، ورهبًا من عذابنا. فإذا قيل: رغب فيه، وإليه، اقتضي الحرص عليه قال تعالى: ﴿إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ) [التوبة: 59] وعلى هذا يحمل قوله تعالى هنا: ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾، تشبيهًا بسير السائر إلى من عنده حاجته؛ كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99]. وإذا قيل: رغب عنه، اقتضى صرْف الرّغبة عنه، والزهد فيه؛ نحو قوله تعالى: ﴿أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ﴾ [مريم: 46] وقوله تعالى: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127] فالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: وترغبون عن أن تنكحوهن. وقدم قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾ على قوله: ﴿فَارْغَبْ﴾، لإفادة معنى الاختصاص أي: إليه، لا إلى غيره تكون رغبتك؛ فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق، فلا يليق بصاحبها أن يرغب إلى غير الله تعالى، وتقديمه هو ممَّا قُدِّم فيه المتعلَّق على المتعلَّق به، أو المعمول على العامل على حدِّ تعبير النحاة، ولم تمنع الفاء من هذا التقديم، خلافًا للمشهور من أقوالهم. ولهذا نجدهم يقدرون عاملاّ محذوفًا لـ <ارْغَبْ> ويجعلون حذفه للتعميم، وعلى قولهم يكون التقدير: وارغب إلى ربك، فارغب إليه أو فارغبه، والذي ألجأهم إلى هذا التكلف في التأويل ما اصطلحوا عليه من أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، والذي عليه أهل التحقيق خلاف ذلك، والله تعالى أعلم بأسرار بيانه !! الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com ==================== * شبكة التفسير والدراسات القرآنية * الأستاذة رفاه محمد علي زيتوني
|