• حديث القرآن عن القرآن (17)

    حديث القرآن عن القرآن (17)

     

    ومن حديث القرآن عن القرآن ما جاء في قوله تعالى في سورة آل عمران : ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران:138]

    وسواء كانت الإشارة في قوله : ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ ﴾ إلى القرآن الكريم أو إلى ما يسبق هذه الآية من آيات ، فإن المشار إليه جدير أن يتدبر وأن تُعلم هدايته

    ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الاسراء:9]

    والبيان في قوله ﴿ هَذَا بَيَانٌ ﴾ هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة . والهدى : بيان طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغيّ .

    والموعظة : هى الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين .

    فالحاصل أن البيان جنسٌ تحته نوعان : أحدهما الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى . والثاني : الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة .

    هذا ما أجمله العلماء في تفسير البيان والهدى والموعظة . وهو إجمال يحتاج إلى تفصيل وحسن تدبر لآيات الله .

    فمن المعلوم أن الناس جميعا يمرون بالحياة الدنيا ولا يقيمون .

    والأجل الذي كتب لهم إن هو إلا فترة امتحان يُرى فيها أيحسنون أم يسيئون ؟ فترة عمل وجد وإخلاص وكَدّ ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت:46]

    ومن رحمة الله بالخلق أن بين لهم نتيجة عملهم وبصَّرهم بما يجب أن يكونوا عليه ليفلحوا في يومهم ويفوزوا في غدهم . فأرسل الرسل مبشرين ومنذرين . وأنزل معهم الكتاب والميزان وجعل الجزاء لمن أحسن أو أساء وفاء لأعمالهم وإنصافا للحق الذي دعوا إليه وأمروا به. ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [ النجم : 31 ]

    ومن تدبر إحسان المحسن وإساءة المسيء وجد أثر ذلك في الدنيا عدلاً وبرًّا وفساداً وظلمًا . يحسن من يحسن في الدنيا ويسيء من يسيء ، فينعم الناس بإصلاح من يحسن ، ويساءون بإساءة من يسيء . وحكمة الخلق تأبى أن يستوي عند الله محسن ومسيء أو متّقٍ وفاجر وحكمة الخلق تقتضي أن يعود الناس إلى خالقهم وأن يجدوا ما عملوه في دنياهم حاضراً أمام أعينهم في حساب وجزاء لا مناص منه ول مفر . وإلا كان الخلق عبثاً وباطلاً ﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ﴾ [ ص : 27 ]

    ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ﴿115﴾ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [المؤمنون: 115 ـ 116]

    ﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة : 281]

    وهذا البيان للناس دلالة لهم على ما يجب أن يكونوا عليه , وقد حفظ الله الذكر للأجيال كلها ليكون بيانه هدى لهم وتبصرة ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال : 42]

    وليس بعد هذا البيان للناس عذر لمعتذر أو حجةٌ لمنكر أو جاحد . وفي البيان الذي سبق هذه الآية صفات يجب أن تتبع وهى صفات المتقين الذين يرجون رحمة الله وينالون مغفرته ورضوانه وهى صفات لها أثر في تزكية النفس وروابط المجتمع . فالمتقي بتقواه ليس بمعزل عن شئون الحياة وأحوال الناس بل هو عامل على إصلاحها . يكف شره عن غيره ويقدم خيره . فعلى الذين يؤثرون الحياة الدنيا أن يعرفوا سبيل الأمن والسلام فيها .

    فإنها لا تأمن إلا بإيمان المؤمن ولا تسلم إلا بتقواه . ويخطئ من ينشد الإصلاح بعيداً عن صلاح الفرد وهو الأصل في تكوين المجتمع .

    إن صلاح الإنسان فيه إصلاح لشئون الحياة واستقامتها . فالإنسان الصالح تصلح به الأمور الفاسدة . والإنسان الفاسد تفسد به الأمور الصالحة .

    ومن هنا كانت العناية بتربية الإنسان وإعداده هى السبيل لإعداد أمةٍ ناهضة تنشد معالي الأمور وتبعد عن سَفْسافِها .

    ولنتدبر بيان القرآن في صفات المتقين لنرى ما تؤديه هذه الصفات في حياة الفرد وروابط المجتمع وما تجنيه الإنسانية من ثمار الخير والبر حين تتنافس على المكارم لا على المغانم .

    ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿133﴾ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿134﴾ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿135﴾ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ﴿136﴾ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [أل عمران: 133 ـ 137]

    تلك هى الآيات التي سبقت قوله تعالى ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ ﴾

    وفيها صفات أهل التقى التي يُسارع بها أهلها إلى مغفرة من ربهم وجنة عرضها السموات والأرض . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . أما أهل التكذيب والجحود فلن ينتظروا إلا سنة الله في عاقبة المكذبين ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا . ومن ذلك فليحذر المخالفون المكذبون وليسارعوا بالتوبة ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴿43﴾ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴿44﴾ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [الروم: 43 ـ 45]

    إن صفات أهل التقى رحمة بالناس في دنياهم والراحمون يرحمهم الرحمن ﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [ آل عمران:107]  فإنهم ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾[آل عمران:134] وتلك صفة لها دلالتها في إشاعة الخير بين الناس وتحقيق المودة ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾[آل عمران:134]

    ولا تسل عن برَّ من يكف عن إمضاء غيظه مع القدرة عليه فإن من ملك زمام نفسه وكظم غيظه ولم يَدَعْه ينفذ إلى غيره كان أقدر على تحقيق السلم في حياة الناس عن غيره . والعافين عمن ظلمهم أي التاركين عقوبتهم أولئك يبرون بغيرهم ويبتغون بما صنعوا وجه ربهم ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾[الشورى:40].

    إن أهل التقى مُنْفِقون ، كاظمون غيظهم ، عافون عن الناس ، محسنون ، تائبون ، ذاكرون لله، مستغفرون . وتلك صفات يعود أثرها على الناس سلماً وأمناً ووُدًّا وخيراً وصلاحاً وبراًّ . إنهم بصفاتهم رحماء عاملون في تحقيق الخير وإشاعة البر ﴿ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران:136] .

    ﴿ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴿138﴾ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾[ آل عمران: 138 ـ 139].

    الإسلامالقرآن والتفسير

    IslamQT.Com  

    =============

    فضيلة الشيخ / د.محمد الراوي

     


    بازگشت به ابتدا

    بازگشت به نتايج قبل

     

    چاپ مقاله

     
    » بازدید امروز: 532
    » بازدید دیروز: 946
    » افراد آنلاین: 15
    » بازدید کل: 30496