حديث القرآن عن القرآن (16)
ومن حديث القرآن عن القرآن ما جاء في قوله تعالى في سورة آل عمران : ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [ آل عمران : 108 ]
والمخاطب هو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي مخاطبته تنويه بشأنه وذكر لمكانته ورسالته والمشار إليه بقوله﴿ تِلْكَ ﴾ ما سبق من الآيات وما تقرر فيها من حقائق ومصائر ومنها ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿104﴾ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿105﴾ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿106﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿107﴾ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [أل عمران: 104 ـ 108 ]
تلك آيات الله وبيناته لعباده نتلوها عليك بالحق . فما تقرره من مبادئ وقيم حقُّ وما تعرضه من مصائر حقٌّ ، وهى آيات حق من الله الحق .
ومن أدرك ذلك وآمن به تمسك بالحق وعمل به ، ولم تصرفه منفعة عاجلة أو رغبة طارئة عن الاستمساك بالحق والثبات عليه والرضا بنتائجه . فإن الجزاء واقع لا محالة .
فمن تمسك بالحق وجده ، ومن آثر الباطل أُخذ بالحق . والجزاء في الحالين حق . فالجنة حق والنار حق ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ ﴾
إن ترتيب الجزاء على العمل إحقاق للحق الذي لا تستقيم شئون الناس إلا به .
ومن تدبر العواقب أيقن أن الحق لا يهزم أبداً لأنه من الله ، والله هو الحق ، وقوله الحق ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [آل عمران:109]
إن من له ما في السموات وما في الأرض لا يستطيع أحد أن ينفذ من ملكه أو يفلت من حكمه ، ومن إليه ترجع الأمور لا إلى غيره يحاسب على الحق الذي بصَّر به ودعا إليه وأقام الحجة على الخلق بآياته وبيناته ، وهو قادر على ذلك ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾ [سورة فاطر:44]
فالأمر جد لا هزل فيه ، وحق لا يقترب من ساحته باطل ولا يتسرب إليه .
إن من نزّل هذه الآيات لا يعجزه من شئ في الأرض ولا في السماوات . وبالحق أنزل القرآن ، وبالحق نزل ، وبالحق ومن أجل الحق تقوم الساعة ﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الجاثية:27]
فالحق ليس ضياعاً أو خذلاناً لمن تمسك به . فما الساعة في قيامها وأهوالها إلا إحقاق للحق وإحضار لميزانه ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء:47] . ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴿14﴾ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ﴿15 ﴾ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ [الروم:14 ـ 16]
إن الإيمان بالحق والعمل به أمن لدنيا الناس ، وفوز لهم في أخراهم . ولا أمن ولا استقرار لمن كذب بالحق أو أعرض عنه .
وإذا تنكر الناس للحق وأُخْسِرَ ميزانه بين الخلق فلا تسل عن الاضطراب والهرج والمرج في كل شئ داخل النفس وخارجها . في الكلمة التي تقال وفي العمل الذي يُراد وفي كل شأن من الشئون مرج واضطراب وشقاءٌ يقع بمن كذب بالحق في دنياه وفي الآخرة عذاب أيّ عذاب .
إن الآيات التي تتلى على الناس بالحق فيها دعوة لهم إلى اتباع الحق ويأتي الجزاء لمن اتبع الحق وأعرض عنه من الله عدلًا وإنصافاً وإحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل ﴿ وما الله يريد ظلماً للعالمين ﴾ .
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴿27﴾ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴿28 ﴾ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 27 ـ 29].
الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com
=============
فضيلة الشيخ / د.محمد الراوي
|