حديث القرآن عن القرآن (14)
ومن حديث القرآن عن القرآن ما جاء في قوله تعالى في سورة آل عمران : ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران:7].
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ حديث عن القرآن، وعمن أنزله، ومن أنزل عليه . والضمير في قوله [هو] يعود إلى الله عز وجل، وقد ذُكِرَ من قبل في آيات. وقد جاء الضمير في قوله ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ بعد هذه الآيات ليُعلم أنّ من أنزله تلك صفاته فهو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ، وهو عزيز ذو انتقام ، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء . وهو ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران:6]
فقوله بعد ذلك ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ فيه بيان لمنزلة الكتاب ومكانته ببيان من أنزله، وفيه تشريف وتكريم لمن نُزِّل عليه .
فالمنزِّل هو الله وقد عرفت صفاته وشوهدت آياته .
والمنَزَّلُ عليه رسول من الله فهو جدير بأن يطاع وأن يتّبع، فإن طاعته طاعةٌ لله الذي أرسله ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء:80]. ولا نجاة إلا بصدق الإخلاص لله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم .
والكتاب في قوله ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ هو القرآن فإنه الجدير بهذا الوصف على الإطلاق دون سواه . وقد حفظ بحفظ الله ليبقى منهج الهداية محفوظا للأجيال كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبه حفظت الرسالة وختمت وعرفت الحقيقة ـ كما جاءت من عند الله ـ مع جميع الأنبياء . حفظ الكتاب المهيمن فحفظت الهداية لجميع الخلق . وإذا عرف الناس مصدر الهداية ومنهجها وحفظ الله الذكر وبيانه هدى للناس إلى يوم الدين فلا عذر لمخالف ولا حجة لمعرض بعد إعذار وإنذار ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران:4] وتقرير الجزاء ـ كما جاء في هذا الكتاب ـ لمن أحسن أو أساء فيه دلالة على أن الحق الذي أنزل وحفظ بحفظ الله لا يمكن أن يهزم أو يضيع، ومن تدبر العواقب أيقن يقيناً لا شك فيه أن الحق لا يمكن أن يهزم أبدا . والأمور بعواقبها . والعاقبة نصر للحق ودمار لمخالفيه، وتكريم للعاملين به وهلاك للكارهين ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ .
وإذا تدبرنا ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ دعانا ذلك إلى الاعتصام بالكتاب والتمسك بالسنة . ذلك أن الله هو الذي أنزل الكتاب، وخاطب به رسوله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾ فالمنزل عليه رسول مصطفي من الله يجب أن يطاع، وطاعته طاعة لله ومعصيته معصية لله ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور:63] وقد جاء الحديث عن هذا الكتاب في قوله: ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران:7] وهو يفيد أن منه محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . ولا تعارض بين هذا وبين ما جاء في القرآن، مما يدل على أنه كله محكم؛ إذ قال الله عز وجل ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ﴾ [هود:1] وما جاء فيه مما يدل على أنه كله متشابه إذ قال الله عز وجل ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ ﴾ [الزمر:23] . لا تعارض بين هذه الإطلاقات لأن معنى إحكامه أنه متقن رصين، لا يتطرق إليه خلل لفظي ولا معنوي كأنه بنيان مشيد محكم يتحدى الزمن ولا ينتابه تصدع ولا وهن .
ومعنى كونه متشابها أنه يشبه بعضه بعضا في إحكامه وحسنه وبلوغه حد الإعجاز في ألفاظه ومعانيه، حتى إنك لا تستطيع أن تفاضل بين كلماته وآياته في هذا الحسن والإحكام والإعجاز .
وأما أن بعضه محكم وبعضه متشابه فمعناه أن من القرآن الكريم ما اتضحت دلالته على مراد الله عز وجل منه . ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد . فالأول هو المحكم، والثاني هو المتشابه على خلاف بين العلماء في ذلك . بيد أن الذي اتفقوا عليه ولا يمكن أن يختلفوا فيه، هو أنه لا تنافى بين كون القرآن كله محكما أي متقنا، وبين كونه كله متشابها أي يشبه بعضه بعضا في هذا الإتقان والإحكام، وبين كونه منقسما إلى ما اتضحت دلالته على مراد الله تعالى وما خفيت دلالته . فالقرآن كله محكم أي متقن؛ لأن الله قد صاغه صياغة تمنع أن يتطرق إليه خلل أو فساد في اللفظ أو المعنى. والقرآن كله متشابه لأنه يماثل بعضه بعضا في هذا الإحكام . والقرآن منه محكم واضح المعنى المراد وضوحا يمنع عنه الخفاء ومنه متشابه تخفى دلالته ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾ أي الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم. ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ أي تحريفه على ما يرون . وقد جاء في صحيح البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ..﴾ إلى قوله ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ﴾ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم )
أخي المسلم: لا تكن من أولئك الذين يتكلمون في أمرٍ بلا علم، أو يبتغون التأويل بلا حجة أو دليل، أو يتبعون ما تشابه ويعرضون عن المحكمات ـ وهن أم الكتاب، فإن الله قد جعل لك ما به تستيقن . آيات محكمات هن أم الكتاب ـ وامتحنك بأخر متشابهات، وهداك بفضله ورحمته إلى الحق بإذنه . فادع الله بصدق ويقين ألا تقع فيما وقع فيه أولئك الذين في قلوبهم زيغ ، فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وقل آمنت به كل من عند ربي، وسله مخلصا مع الراسخين المتقين ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران:8].
ولا تجعل فكرك أسيرا لهواك بإقحامه فيما لا مجال له فيه، وما لا يعلم تأويله إلا الله، واحذر الظن والتخمين، وكن مع الحجة والبينة والبرهان، فبها يطلب العلم ويكون اليقين . فإن الراسخين في العلم لا يقولون قولا بلا علم يستند إلى برهان وحجة . وما استأثر الله بعلمه يجب أن يوقن به، وألا يلجأ إلى تأويله، بل يقول المؤمن ما يقوله الراسخون في العلم ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ . ومن هذا القبيل ما أخفاه الله على الناس من معرفة الساعة، فإن الحكمة في ذلك لا تخفى على ذي عقل ورشد . فإن الله قد أخفى ذلك على الناس رحمة بهم، كما أخفى عنهم آجالهم . فسبحانه من إله حكيم . فما استأثر الله بعلمه وأخبر به وقال ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ ﴾ فيه من حكمة الامتحان والاختبار ما لا يخفى، وبه يتميز الناس ويتفاوتون في درجات الإيمان واليقين ﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت:3].
وقد قضى الله أن يُمتحن الناس، وقد أحكم لهم ما به يكون الثبات على الحق واليقين، وامتحنهم بالمتشابه الذي ذكره واستأثر بعلمه ؛ ليميز الصادقين الراسخين من الكاذبين المذبذبين .
وإذا تجاوزنا عن هذا النوع من المتشابه ـ وهو ما استأثر الله بعلمه ـ إلى غيره مما يعلمه خواص العلماء وما يعرفه الإنسان عن طريق الدرس والبحث، فإن الحكمة فيه لا تخفى سواء في رفع درجات الناس، وتنافسهم على معالي الأمور وتحصيل كثير من العلوم، أو حث الناس على البحث والدرس وطلب المعرفة فيما يصعب عليهم، واستعمال عقولهم فيما طولبوا بتدبره والتفكر فيه . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .
|