تأملات إيمانية من سورة تبارك ج2
تعالوا نستكمل تأملاتنا أمام آية أخرى من هذه السورة الكريمة، التي لهـا فضل كبير بين سور القرآن الكريم، فهي الواقية و هي المنجية، كما أخبر عنهـا سيد المرسلين، و نسأل الله أن ينجينـا بهـا بإذن الله.
نقف أمام الآية 19 و التي يأتي فيهـا قول الحق: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات و يقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن، إنه بكل شيء بصير).
لقد بدأت الآية الكريمة بهذا السؤال الاستهجاني الذي لا يستطيع أي إنسان لديه القدرة عل الرؤية والتبصر أن يحجب الحقيقة الناصعة بكفره أو أن ينكر الحق وهو ماثل أمامه... كيف لهذا الجسم الذي له وزن أن يقاوم قوانين الجاذبية دون أن يهوى إلى الأرض... ثم يخبرنا الحق أن ما يحقق للطير هذا الاتزان والاستقرار فى الطيران ويمسكهـا عن السقوط، هي رحمة الله و بصيرته وقدرته... ليست الطبيعة، و لكنهـا حكمة الخالق التي سخرت الطبيعة... إنهـا قوانين رحمة الله الخالق البصير التي فرضهـا وأخضع لهـا الطبيعة أو تمسكت بهـا الطبيعة طائعة مستجيبة، فالتزم بهـا الهواء فى دفعه ورفعه للطير وأمسكت الطير فى تحليقه فى أجواء السمـاء، فحفظ له استقراره واتزانه، إن هذه الكلمة التي وضعهـا الخالق بقوله تعالى: "ما يمسكهن" تدل على أن كل ما يجرى فى هذا الكون من حركات وسكنات وصعود وهبوط و دوران وانطلاق هو من منطلق خضوع كل شيء لقدرة الله ورحمته وحكمته... وإن اختص بهـا الحق فى هذا القول الطير... ولكنهـا سارية فى كل ما نراه حولنا من إمساك السمك فى الماء والنحل فى الجبال وكل مخلوق من حولنا فى حياته وأحواله.
تصف الآية أيضاً وضعين متمايزين للطيور أثناء تحليقها، الوضع الأول عندمـا تطير صافات أي باسطات أجنحتهن وسابحات فى أسراب متناسقة وصفوف منتظمة، تستغل فى اندفاعهـا ما يسره الله لهـا من قدرة على تقوس أجنحتهـا والميل بهـا للمناورة فى الحركة وتوجيه ذيلهـا وخفض رأسهـا وخفة وزنهـا وانسيابية جسمهـا فتظل سابحة فى الهواء الذي فرض الله عليه قوانين رحمته، وإذا نظرنا على سبيل المثال إلى اختلاف درجة تقوس السطح العلوي لجناح الطير عن سطحه السفلى عنددما تبسط أجنحتهـا، حيث يؤدى هذا الاختلاف إلى زيادة ضغط الهواء أسفل الجناح عن الضغط أعلى الجناح، فيتمكن الهواء من رفع الطير إلى أعلى بقوة تفوق وزنه، و كذلك عندمـا ننظر كيف يخفض الطائر رأسه تحت مستوى جناحيه كي يقلل مقاومة الهواء لحركته أثناء اندفاعه، فسنرى حقـاً أن ما يمسك الطيور وهي صافات هو من صنع إله رحيم وهداية رب بصير كما تنص هذه الآية الكريمة بأدق وأصدق الكلمات.
ثم تصف الآية بالرغم من كلماتهـا المحدودة وضعـاً ثانياً أثناء حركة الطير، عندما يقبضن أجنحتهن، و ذلك بما هيأه الله لهذه الطيور من قدرات على الإحساس باتجاهات وقوة التيارات الهوائية من حولهـا، فما أن تشعر بريح مواتية قادرة على رفعهـا، تقبض أجنحتهـا للاستراحة والاستعانة بهذه الرياح لرفعهـا، و لأن الغالب هو بسط الجناحين فعبرت الآية الكريمة عنه بصيغة اسم الفاعل"صافات" ... ولأن القبض يأتي متجدداً بحسب ظروف طيرانها جاء ذكره بصيغة الفعل لقلته بقوله سبحانه وتعالى... " و يقبضن"
و إذا عدنا مرة أخرى إلى بداية الآية الكريمة للرد على هذا الاستفسار الرباني بقول الحق "أو لم يروا "... نجد أن الإنسان عندما تدبر أيضا جسم الطائر من أسرار، اكتشف الأسرار والأشكال الهندسية التي مكنته من الطيران، فصنع طائرة لهـا جسم يحاكى جسم الطائر فى انسيابيته لتقلل مقاومة الهواء، ومن مواد خفيفة مفرغة كجسم الطائر وريشه كي يتمكن الهواء من حملها، وجناحين تحاكى جناحي الطائر لتستقر حركتها فى الهواء وذو زعانف تحاكى قدرة الطير على تقوس أجنحته عند الطيران للارتفاع والهبوط... و زعانف تحاكى ذيل الطائر لتوجه حركتها فى الطيران، و اكتشف علوم الديناميكا الهوائية وأسرار وخواص الهواء الذي ألزم الخالق الهواء بهـا حتى تمكنه من حمل الطير وإمساكه، ولكن من علم الطير أسرار هذه السباحة الواعية المستقرة التي يعجز عن تنفيذهـا كل البشر بهذه الدقة المتناهية وبهذه القدرة المبدعة وبهذا الاتزان الكامل والاستقرار التام... إن العرب المسلمين هم أول من حاول من خلال طاعته لأمر الله بالنظر إلى الطير أن يحاكى الطير فى طيرانه... و جاء العلماء بعد هذا واخترعوا الطيران الشراعي الذي حاكى أيضا الطير فى طيرانه عندما يطير باسطاً جناحيه بدون محركات تدفعه... حيث تستغل الطائرة الشراعية اندفاعهـا فى تيارات هواء صاعدة فتصعد بهـا إلى أعلى عندما تريد الارتفاع.. والعكس عندما تريد الهبوط... إذا نظرنا إلى حركة الطائرة الشراعية التي اجتهدت عقول البشر كي تصممهـا حتى يمسكهـا الهواء الذي سخره الله وألزمه بالطاعة ونظرنا إلى حركة الطير.. نجد أن الطائرة الشراعية تحتاج إلى معدات تجرهـا على الأرض حتى تكتسب السرعة التي تمكن الهواء من حملهـا ولا تتركهـا هذه المعدات إلا بعد أن تصل إلى الارتفاع المناسب لحركتهـا... و بالرغم منها فكثيرا ما نسمع عن أحداث تحطم الطائرات الشراعية و وفاة قائدهـا... أما الطير فهو ينتقل من الثبات إلى الحركة ومن الحركة إلى الثبات فى سهولة ويسر دون أن يعجز أي طير مهما قل عمره وحجمه عن أداء هذه المهمة.. وتعتمد الطائرة الشراعية على الكثير من المعدات كي تحدد اتجاه حركة الهواء كي تستغله فى دفعهـا وتحركهـا، و بالرغم من كثرة هذه المعدات فإن الطيران الشراعي يسترشد بحركة الطيور فى السماء.. فالطيور هي التي تدلهم بما لديهـا من حواس أودعهـا الخالق بهـا كي يمسكهـا فى طيرانهـا فتقودهم إلى أماكن تيارات الرفع
الحرارية التي تنشأ من ارتفاع الهواء الساخن إلى أعلى أو من تدفقات الهواء الدوامية على سفوح الجبال والوديان، فإذا تابع قائد الطائرة الشراعية أماكن حركات أسراب الطيور إلى أعلى عندما تكون أقرب إلى القبض، أدرك أن هذا المكان هو مركز للتيارات الصاعدة فيحاول التوجه إليه للصعود إلى أعلى... ما هي هذه الأجهزة المعقدة داخل الطير التي يعي بهـا و يحدد بهـا حركته و اتزانه... إن علومنا و مداركنا ودراستنا تقف عاجزة عن أن تحاكى ما وهبة الخالق لهذا الطير البسيط من قدرات... إنهـا قدرة الخالق الذي يتحدى كل من له رؤية و بصيرة جاء فى هذه الآية عن أن يسجد و يقر برحمته و قدرته وبصيرته... وعندما ندقق الرؤية التي وجهنا الخالق إليهـا ونظرنا إلى الطير كيف يمد ساقيه إذا اقترب من الأرض ثم يرفعهـا ويخفيهـا داخل جسمه عندما يحلق فى السماء كي يقلل مقاومة الهواء لحركته... ثم نظرنا إليه كيف يحدد الارتفاع الذي يستقر عنده فى طيرانه باستخدام قوانين الطفو فى الهواء التي لم يكتشف الإنسان بعد معظم أسرارهـا... ولكن ما تمكن من فهمه ومعرفته ومحاكاته حقق له أن يرتاد الهواء بالطائرات و المناطيد و سفن الهواء التي تحمل معدات ووسائل غاية فى التعقيد لتحقق بعض ما وهبه الخالق لهذه الطيور من قدرات وحركات... سنصل حتما إلى أن وراء هذا الخلق إله عظيم حكيم أعدت كل شيء بالحكمة والرحمة والبصيرة، حقا " ما يمسكهن إلا الرحمن، إنه بكل شيء بصير".
إن ما يميز الطائرة الهليوكبتر عن باقي الطائرات قدرتهـا على الصعود عمودياً، فهي تستخدم مروحة رأسية تدور بمحركات هائلة القدرة تمكنهـا من هذا الصعود العمودي أو الرأسي حتى لا تحتاج إلى مطارات أو مسارات صعود، و تصدر محركاتهـا أزيزاً هائلاً و تطلق غازات ملوثات وعوادم تضر بالبيئة والبشر، ولكن الطير أيضاً يصعد إلى أعلى رأسيا وعمودياً دون الحاجة إلى مطارات، ودون أن يحتاج أيضاً إلى محركات هائلة ودون أن يصدر أزيزاً أو يلوث الهواء بغازات وعوادم.. كيف هذا ؟ إن الرد واضح من هذه الآية المتكاملة: إنها رحمة الإله الرحمن البصير بكل شيء.
أننا نرى الطيور عندمـا تنتقل بين القارات وتصعد إلى طبقات الجو العليا حيث يقل الضغط ودرجة الحرارة، بسبب برودة الجو وانخفاض الضغط فى هذه الطبقات، فإننا نزود الطائرات بمعدات معقدة لتحافظ على الضغط الجوى ودرجات الحرارة المناسبة داخل الطائرة كي لا تتجمد أو تنفجر أجساد ركاب الطائرة، فكيف يتأتى للطيور ذلك الثبات عندما تطير "فوقنا" ؟ ما الذي يمسكهـا مستقرة ثابتة عند هذه الارتفاعات ؟ ، أو ما الذي يحتويه جسم الطائر بحيث يتوازن الضغط داخله ودرجة حرارة جسمه مع هذه المتغيرات ؟ ... تقف علومنا عاجزة حقاً عن سبر هذه الأسرار، و كل ما لدينا من رد أنهـا حقا رحمة الخالق البصير بكل شيء الذي اقتضت إرادته أن يمسكها برحمته كما ينص على هذا قوله الحق فى محكم كتابه.
إننا أيضا إذا اشتملت رؤيتنا تلك الطائرات العادية التي تستخدم عدداً لا يحصى من الوسائل الملاحية كي تهتدي فى مسارهـا، بوصلات وخرائط وأجهزة استقبال وتوجيه ومحطات إرسال وأبراج مراقبة وأقمار صناعية وحاسبات الكترونية و تأمينات، وإذا تحركت فى أسراب فهناك قائد سرب له خبرة شاسعة كي ينظم حركة سربه الذي لا يتعدى بضع طائرات كي لا تصطدم ببعضهـا و فى وقت محدود لا يتعدى الساعات ومسافة محدودة، وهو مزود فى طائرة القيادة بأعقد الوسائل والمعدات، و كثيراً ما نسمع عن حوادث اصطدام وسقوط وارتطام... و لكن من يقود و يوجه أسراب الطير وهي سابحة بأعداد كبيرة يصل بعضهـا إلى الآلاف وفى صفوف متراصة بكل الانتظام والكمال و الجمال، البعض منهـا عند هجرتهـا تعبر القارات والمحيطات فى فترات تتعدى الأسابيع أو الشهور... إذن ملاحين أرضيين أو محطات تبث الإشارات أو تحدد المسافات.. وبالرغم من هذا فلم نسمع عن طيور ضلت الطريق، كما نسمع عن طائرات انحرفت عن مسارهـا و كان الحطام نهـايتهـا... كيف هذا و لديهـا ما لديهـا وهذه الطيور ليس لديها كل هذه التعقيدات... إنهـا رحمة الخالق البصير بكل شيء..
و إذا نظرنا إلى الطاقة التي يحتاجهـا الطير كي يحلق فوق رؤوسنا و يقطع بهـا هذه المسافات، و قارناهـا بما تحتاجه الطائرة لقطع نفس المسافات من وقود وزيوت وشحوم، ووضعنا قوانين النسبة والتناسب، لوجدنـا قدرة وحكمة الخالق الرحمن البصير بكل شيء... فما يحتاجه الطائر ليس أكثر من بعض الحبوب الصغيرة التي سخر الخالق الأرض أن تنبتهـا له، فلا تنوء بحملهـا و هي طائرة... أما الطائرة فتمتلأ خزانات الوقود بما يرهقهـا صعودا وطيرانا حتى تجد ما يمكنهـا من الحركة لقطع أقل المسافات...
هل أمامنا بعد هذا الاستفسار إلا الشهادة بالله الواحد الأحد، الذي يخبرنا فى كتابه بأدق الكلمات أن نرى كيف سخر الهواء ليكون قادراً على حمل الطير، وخلق الطير بحيث يتوافق فى خلقه مع القوانين التي ألزم بهـا الهواء، وخلق الأرض التي تعد للطائر هذا الغذاء والوقود لحركته... وهدى الطير لأن يؤدى حركات لا يقدر أن يؤديهـا أعظم الطيارين بعد تدريبهم فى أعرق الكليات ومعرفتهم لعلوم ديناميكا الطيران والديناميكا الهوائية... هكذا يمسكهن الرحمن برحمته والبصير بقدرته والمرسل الكتاب بعلمه وحكمته، وهكذا نرى الله الواحد الرحمن البصير فى كل شيء عندما نحاول أن نرد على استفساره البليغ فى صدر الآية: أو لم يروا إلى الطير ؟؟؟؟؟.
ثم تعالوا نقف وقفة أخرى أمام آية كريمة قرب نهـاية هذه السورة العظيمة تذكرنا بفضل الله الذي أكرمنا بهذا الخلق... قامة مشدودة و قدرات فريدة ميزتنا عن كل ما حولنا من حيوانات وحشرات وغيرهـا من سلالات الأرض، و بالرغم من هذا لا نوافى حق الكريم الذي أكرمنا بما يليق بكرمه ونعمه من الشكر... حيث يقول الحق فى كتابه " قل هو الذي أنشأكم و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة، قليلا ما تشكرون"... تبدأ الآية بكلمة معجزة لم نعرف شمولهـا إلا بعد أن دخل جامعاتنا علم الإنشاءات... فعندما يقف الإنسان منتصباً على قدميه في أي بقعة من بقاع الأرض ولا يمشى منبطحـاً على أربع كمثل باقي الحيوانات والحشرات من حوله، ألا يثير هذا فضوله، ألا يحاول أن يبحث عمن أتاح له هذا الفضل كي يتوجه إليه بالشكر، ألا يثير فضوله عندما يرى المباني المنشأة بطراز فريد فى أن يتعرف على من وضع تصميمهـا وقام بحساب هيكلهـا الخرساني أو الحديدي حتى يمكن أن تتحمل الأحمال الواقعة عليهـا والإجهـادات التي تتعرض لهـا فتحفظ لهـا ثباتها و استقرارها... ألا يعلم أن قامته المشدودة هكذا تعتمد أيضاً على هيكل خرساني أو عظمى شبيه بالهيكل الخرساني لأي منشأة ويتكون من 206 عظمة بينهـا 365 مفصل، بحيث تجد أن كل عظمة أو مفصل قد صمم بالصلابة و الأبعاد التي تحقق لأي منهـا مقومات الحركة وتحمل الأحمال الواقعة عليهـا فى كل مستوى و التي تتناسب مع ضخامة الجسم و وزنه .... ألا ينظر إلى عظام القدم و كيف تتصل بباقي المنشأ العظمى بأضخم مفصل يتيح له الوقوف منتصباً وهو مفصل الحرقفة الذي يخرج منه خمس عظمات على شكل مجموعة من الجسور تنتهي بخمس نقاط للارتكاز على الأرض.. حيث تشكل نقاط الارتكاز مع المفصل مثلث اتزان بديع الصنع والتصميم والقدرة على التحمل بحيث تعطى هذا الإنشاء أو الهيكل العظمى القدرة على الوقوف ثم الحركة المتزنة فوق الأرض... أنه أشبه بالأساس الخرساني الذي يصب داخل الأرض ليتحمل وزن المنشأة من فوقه، و لكنه قادر أيضـا على أن يتحرك بما عليه من أحمال دون أن ينهـار... ويعقب القدم عظام الساق ثم الفخدين ثم عظام الحوض التي تحمل العمود الفقري، الذي يحمل بدوره عظام الأكتاف (الترقوة) و القفص الصدري والرقبة ثم الرأس فى تسلسل إنشائي بديع الصنع والكمال والجمال والإتقان، عظام ترتبت ونشزت أنسجتهـا فى اتجاهات تتحمل الإجهـادات العمودية والالتوائية والمماسيه بدقة كاملة وحسابات دقيقة بالأبعاد والصلابة والقوة المطلوبة لكافة الإجهادات والمقاومات.. إنه أعظم إنشاء هندسي يمكن أن يتخيله البشر شيده أعظم وأحسن الخالقين... كل فقرة وعظمة ومفصل جاء بحكمة بالغة و دقة كاملة ونظام بديع... ثم يشتمل هذا الإنشاء أو المنشأ أيضا على مجموعة هائلة من العضلات و لأربطة التي تعطينا القدرة على التحكم فى كل عظمة ومفصل ونحركها كيفما نشاء فى سلاسة ويسر وفى كافة الأعمال.. وكل عضلة أيضا بالقوة والأبعاد المناسبة لما تؤديه من أعمال... ثم نأتي إلى ما يمكن هذا الإنشاء فى الحركة من طاقة ثم القدرة على التكيف مع الظروف الخارجية من ضغط ودرجة حرارة ورطوبة ثم الصيانة ليستمر فى القيام بعمله ثم تمد الجسم بصفة منتظمة بقطع الغيار المطلوبة عندما يحين أوانهـا فى التغيير ثم الزيوت والشحوم المطلوبة لحركة المفاصل والخامات المطلوبة لترميم أي كسر أو اعوجاج... هكذا أمد الله هذا الإنشاء بالجهـاز الهضمي الذي يعد له الوقود والزيوت والشحوم ومواد البناء والاستعراض والترميم، ثم جهـاز تنفسي يحقق له حرق الغذاء داخل العضلات ليمد الجسم بالطاقة المطلوبة والقوة التي تمكنه من هذه الحركة بنظام يعجز العقل البشرى عن تخيله، ثم الجلد البشرى الذي يعد أعظم جهـاز تكييف فى العالم لكي يتكيف المنشأ مع الظروف الخارجية، إنهـا أجهزة ومعدات ونظم أعجز عن سردهـا بالدقة المطلوبة والكمال الذي يعطيها حقها من الشرح، فكل له تخصصه وحدوده من العلم، و لكن لو استرسلنا فى الحديث بما يدركه كل منا لعجزنا عن أن نحيط بفضل الله و لأيقنا أن مهمـا توجهنـا بالشكر للخالق الذي أكرمنا بهذا الإنشاء بديع الصنع، فلن نوافيه حقه من الشكر كما تنص الآية الكريمة.
يكفى أن نعلم أن هذا المنشأ الذي أنشأه الخالق بعلمه وقدرته كما يذكرنا فى هذه الآية يحتوى على آلاف البلايين من الخلايا وكل خلية تختلف فى وظيفتهـا عن الخلية المجاورة لهـا وإن اتحدت فى أشكالهـا وعدد كروموزوماتهـا، تؤدى جميعا وظائفهـا فى تكامل وتنسيق تسبيحاً لله الذي خلقهـا دون أن يكون لنا أي دخل فى إدارتهـا ... لقد علمت أو تعلمت حقا كل خلية كيفية لتسبيحها و صلاتها كما تذكر الآية الكريمة من سورة ( ! ) هذا القول ( كل قد علم صلاته وتسبيحه )... لقد وهبنا الله جهاز فى رؤؤسنا كي يؤدى هذا المنشأ أو هذه البلايين من الخلايا وظائفهـا فى تناسق و إبداع بإدارة محكمة كما أمرهـا الله من خلال الجهـاز العصبي، جهـاز يعمل بالإشارات الكهربية والكهرومغناطيسية بطاقة كهربية محدودة لا تتعدت بعض الواتات فى الرأس، جهـاز يراقب و يتابع و يسجل و يرصد و يصحح و يبلغ... ولو حاول البشر محاكاة نظام كهذا يقوم ويؤدى ما يؤديه جهـازنا العصبي لما أكفته طاقة السد العالي بأكملهـا...
هكذا بدأت هذه الآية بقول الحق " قل هو الذي أنشأكم "، قل لهم يا خاتم المرسلين فى خاتم الكتب السماوية أنه "هو" الله الخالق البارئ المصور الذي أعطى هذا الإنشاء خلقه ثم هدى.
ثم تتعاقب كلمات الآية بفضل الله فى خلقنـا... فيقول الحق: وجعل لكم السمع، و نقف أولا عند كلمة" جعل "... ونحاول أن نتدبر... لماذا لم يقول الحق " و خلق لكم السمع " أو يقول "و أنشأ لكم السمع "، و يكفى أن كلمة أنشأكم فى بداية الآية الكريمة أن هذا الإنشـاء يتضمن أيضـاً إنشاء أجهزة السمع ... الرد لم نعلمه إلا بعد أن صعد الإنسان فوق القمر، ووجد أن لا أحد يمكن أن يسمع أحدا هناك ... فالأذن تتوقف قدرتهـا عن السمع إذا لم يكون الوسط الذي ينتقل فيه الصوت هو الهواء الجوى... فأنت فى غير جو الأرض لك آذان ولكن لن تسمع بهـا... فبهذا الهواء الذي سخره الله بمجموعة من الخواص "جعل" لك بجهازك السمعي قدرة على السمع، وبدون ما أنشأه الله فى جسمك وبدون الهواء الذي سخره لك فى جو الأرض لن تستمع و لن تشعر بنعمة السمع... هكذا جاءت كلمة"جعل " بإعجاز فريد لا يذكره بهذه الدقة غيره "هو"... تعالوا نفهم بهدوء كيف يعمل جهاز السمع فى الإنسان ... أن الصوت ينتقل من حنجرة الإنسان من خلال اهتزازات الحبال الصوتية، فتهتز حبيبات الهواء الملاصقة لهـا فى الحنجرة وتنتقل هذه الاهتزازات التي نسميهـا بالموجات الصوتية من خلال الهواء لتصل إلى طبلة إذن إنسان آخر، و قد هيأ الخالق الهواء من حولنا بقدر من التماسك بين جزيئاته بما يتيح له المرونة المطلوبة لنقل هذه الموجات من حنجرة المتكلم إلى أذن السامع... وتعتمد مرونة الهواء التي ينشأ عنهـا انتقال الموجات على خواص الهواء من حيث الضغط ودرجة الحرارة والكثافة... ولو اختلفت هذه المقادير عن نسب معينة، لن تتمكن الموجات الصوتية من الانتقال من خلالهـا ولن يستمع أي منا للآخر... ولكن هذه الخواص انضبطت بفضل الله وحكمته لتنقل هذه الموجات بالقوة والسرعة المطلوبة التي يمكن أن تتأثر بهـا طبلة الأذن، فتسجيب لاهتزازاتهـا وتهتز معهـا بقدر محدود... فطبلة الأذن أيضا لهـا سمك ومرونة و أبعاد لا تستجيب سوى لهذه الترددات والشدة التي تصدرهـا الحنجرة والقوة والسرعة التي ينقلهـا الهواء... ويقصد بالتردد عدد الاهتزازات التي تنشأ من الجسم المهتز فى الثانية الواحدة، و هناك أصوات تنشأ من اهتزازات لا تستطيع الأذن أن تسمعهـا، لأن ترددها أو قوتهـا خارج نطاق إحساس الأذن مثل الموجات فوق الصوتية... و عندما تستجيب طبلة الأذن للموجات الواقعة فى نطاق حساسهـا، تهتز الطبلة وتنتقل هذه الاهتزازات منهـا من خلال نظم هندسية داخل تجويف الأذن تعد غاية فى الإبداع و الكمال والإبهـار بحيث تتضاعف حجم هذا الاهتزازات ثم تتحول داخلها من نبضات و طرقات إلى ومضات كهربية و كهرومغناطيسية ينقلهـا العصب السمعي إلى مراكز السمع داخل المخ... إن ما يحدث داخل المركز السمعي أو ما فهمه من نطلق عليه بلغة العصر الحالية micro-processor تعجز علومنا حتى يومنا عن إدراكه وفهمه ... فقد " جعله " الخالق هكذا... أن هذا المركز منطقة محدودة جداً فى القشرة الصدغية العليا... ولكن ما يحدث فيهـا من ترجمة هذه النبضات إلى حروف و تمييز كل حرف عن الآخر بحسب تردده وتجميع هذه الحروف فى كلمات... وكل المراكز فى جميع البشر لهم قانون واحد يترجم الترددات والاهتزازات إلى نفس الحروف فى توحد تام بحيث يفهم كل منا حديث الآخر... حديث تستوعبه عقولنا... هل يمكن ألا نعترف أن هذا من "جعل" خالق واحد أحد... و لا قدرة لنـا مهما شكرنا واهب هذه النعمة أن نوفيه حقه من الشكر...
و مما "جعله" الخالق لنـا أيضا من نعم تستحق الشكر كما تذكر الآية الكريمة نعمة البصر... ولم يذكر الحق أيضا هذه النعمة بنص مثل هذا " وخلق لكم البصر" أو " أنشأ لكم البصر" ، فهذا القول لا ليتفق مع الحقائق التي اكتشفتها علومنا الحديثة ... فالعين لا ترى بدون "الضوء" الذي "جعله الله" فى نطاق قدرة خلايا الشبكية فى قاع العين... وقد ظن العلماء قديما أن العين ترسل أشعة ترى بهـا، إلى أن جاء العلم الحديث وأتضح أن العين ترى بالأشعة التي تشعهـا مصادر الضوء فتنعكس على الأجسام التي حولنا فتكون لنا القدرة على رؤيتها بهذه الأشعة... وتسمى هذه الأشعة بالموجات الكهرومغناطيسية، وهي موجات كموجات الصوت ولكن تسير بسرعات عالية جدا و لهذا نرى الضوء الناشئ عن تصادم السحاب المشحون الذي نسميه بالبرق قبل أن نسمع صوت هذا التصادم الذي نسميه بالرعد، حيث تفوق سرعة الضوء آلاف المرات سرعة الصوت... و الموجات الكهرومغناطيسية لهـا ترددات أو أطوال مختلفة.. فموجات الراديو والأشعة السينية والإشعاع الحراري موجات كهرومغناطيسية تختلف عن بعضهـا البعض بطول موجاتهـا... وينحصر إدراك خلايا شبكية العين فى الموجات الكهرومغناطيسية التي ينحصر طول موجاتهـا فى المدى من 0.39 ميكرون حتى 0.70 مبكرون... ولهذا يطلق على الموجات فى هذا المدى "الضوء"..
ولا تدرك عيون البشر أي موجات خارج هذا النطاق... ومن آيات الله و فضله و رحمته أن "جعل" معظم أشعة الشمس التي تصل إلى الأرض تشتمل على موجات كهرومغناطيسية فى مدى رؤية عيوننا... أي على هيئة ما نسميه بالضوء... بالإضافة إلى ما تحدثه هذه الأشعة من دفء لأجسامنا... فقد سخر الخالق معدلات احتراق الشمس وأبعادهـا عن الأرض بحيث تصل إلى الأرض أشعة الشمس فى المدى الذي تبصر به عيوننا و يفيد أجسامنا.. ثم جعل فى السماء طبقات تمنع الضار منها من الوصول إلى أعيننـا وأرضنا مثل طبقة الأوزون.... هكذا "جعلنا" الخالق نستمتع بنعمة البصر عندما تشرق الشمس فيأتي الضوء الذي ينير حياتنا.. و لو اختلفت درجة حرارة الشمس أو معدلات احتراقهـا أو أبعادهـا لأصبحنا وأمسينا فى ظلام تام لا ندرك فيه شيئا... فهناك المخلوقات التي لا ترى فى النهـار كالخفاش والعقرب... ولكنهـا نعمة الخالق الذي "جعلهـا " لنا هكذا... وحقا لن نوف الخالق حقه مهما شكرناه على هذه النعمة التي جعلهـا... و كما جاء فى الآية الكريمة... "قليلا ما تشكرون". لكن تعالوا أيضا نتدبر كيف ترى العين...
إن الضوء عندما ينعكس على الأشياء... تمر أشعته من خلال حدقة العين... و تصل الصورة إلى شبكية العين مقلوبة كما تنبأنا بهذا علوم الضوء... و خلايا الشبكية التي تقع عليهـا الصورة خلقها الله على هيئة أعمدة و مخروطات... و تنقسم هذه المخروطات ثلاثة أقسام، بعضها يمتص موجات الضوء الطويلة و "يجعلنا" الخالق نميز الأجسام القادرة على إن تعكس الموجات التي لها هذه الأطوال إلى أعيننا أنهـا أجسام حمراء... و البعض الآخر من خلايا الشبكية يمتص موجات الضوء المتوسطة الطول و "يجعلنا" الخالق نميز بهـا الأجسام التي عكستهـا و لم تمتصهـا أنهـا خضراء، و البعض الأخير من هذه الأشِكال المخروطية يمتص فقط موجات الضوء القصيرة و"يجعلنا الخالق نميز بهـا الأجسام التي عكستهـا أنهـا زرقاء... هذه الأسماء وهذه الألوان من "جعل" الخالق، فلا وجود لأحمر ولا لأخضر أو أزرق... ولكنه الخالق "المصور" هو الذي أراد أن "يصور" الأشياء والألوان داخل عيوننا بهذه الكيفية و بهذه الموجات.. أي أن "يجعلهـا" هكذا.... وباقي الألوان تنشأ من اختلاط هذه الألوان كما سنرى بواسطة مركز الإبصار فى المخ... ويأتي الآن دور العصب البصري الذي ينقل هذه الطاقات و الموجات التي امتصتهـا خلايا الشبكية، كل عصب ينقل الومضات من مكان سقوط محدد داخل الشبكية و بتردد محدد و شدة محددة... إنهـا ملايين من الخلايا والمخروطات داخل الشبكية لنقل دقائق الصورة التي تراهـا العين إلى مركز الإبصار... فتنعدل الصورة و تتجمع النقاط و تترجم الموجات الكهرومغناطيسية إلى ألوان وتتكامل هذه الألوان لتعطى العقل صورة متكاملة بالحجم الطبيعي كي يدركهـا الإنسان و يتعامل ببصره مع من حوله... مالذى يحدث داخل مركز الإبصـار أو ما يمكن أن نطلق عليهmicroprocessor آخر فى العقل البشرى... سر لم يصل البشر إلى معرفته... ولا وسيلة إلى هذه المعرفة إلا أن نؤمن أنه "هو"الذي "جعلهـا" هكذا... فحقـا قليلا ما تشكرون...
ولنـا وقفة أو تدبر آخر أمام قول الله سبحانه و تعالى فى هذه الآية عن السمع الذي جاء مفردا.. وعن البصر الذي جاء على صورة جمع... هناك أقوال تعلل هذا وإن اختلفت... ولكن ألا يبصرنا الخالق فى هذا الجمع أن للإنسان ملكات أخرى يبصر بهـا بالإضافة إلى العينين... تلك الأبصار التي تختزن و ترتب و تشغل و تحول ما رأيناه و ما سمعناه إلى معلومات ومعارف ومدارك... إن وراء الآذان والعيون أجهزة لا نعى من أمرهـا شيئا، تجعل لكل منا بصيرته وأبصاره التي تعجز علومنا عن فهمهـا و "تجعلنا" قادرين على أن نسجل الصور والأشخاص والأماكن والكلمات والأصوات ... إن أجهزة التسجيل فى العالم بأجمعه تعجز عن أن تسجل ما يمكن أن يتذكره أي منا من أحداث و بلاد ومعارف... أين هذه الأبصار التي جعلهـا الخالق لنا... الحمد لله الذي "جعل" لنا هذه الأبصار التي لا يصيبها فيروس ولا ندرى من أمرهـا شيئا..
ثم تتوالى نعم الخالق فى خلقنـا... فقد "جعل" لنـا أيضا "الأفئدة" ... وتنبئنا قواميس اللغة بأن مفرد الأفئدة هو "الفؤاد" بمعنى القلب... و توقف القلب معناه الموت... فهو الذي يبعث الغذاء والهواء و الدفء والطاقة إلى كل خلايا الجسم من خلال الشرايين ويعود بهـا من خلال الأوردة كي يخلصهـا من المخلفات كغاز ثاني أكسيد الكربون و السموم الأخرى... وقد حفظ الله لنا هذا القلب داخل قفص صدري من العظام الصلبة لحمايته ثم أحاطه بوسادة هوائية تتيح له التمدد والتقلص وهي الرئة وأودعه فى غرفة محاطة بالحجاب الحاجز لتمنع عنه تقلصات الجهاز الهضمى ... هذا القلب "جعله "الخالق قادراً على النبض 80 مره فى الدقيقة قبل أن نولد بعدة شهور وبعد أن نولد لمدة قد تتجاوز 60 عاما... يدفع القلب أثناءهـا كمية تصل إلى 65 مليون جالون من الدماء بضغط يزيد بمقدار الخمس عن الضغط الجوى و يسير مسافة تزيد عشرات المرات عن محيط الكرة الأرضية... إنه يعمل كمضخة مستمرة العمل بلا توقف... فتوقفها معناه الوفاة، و فى عملهـا تحتاج إلى قدر من الطاقة تعادل الطاقة المطلوبة لدفع عربة متوسطة ( 4 ركاب ) لتدور دورة كاملة حول الأرض... إنهـا مهمة لا تصدق.. يساعد القلب فى هذه المهمة الكبد و الكليتين و البنكرياس و كثير من الأجهزة التي يصعب حصرهـا بما أدركه من علوم... لكن الآن من الذي أنشأ هذا القلب ثم "جعله" لنـا يؤدى هذا الأداء الرائع بهذه الدقة و الكمال و النظام كي تستمر حياتنا... ... الرد جاء فى خاتم كتبه بأبسط الكلمات و أدق العبارات و أكمل المعاني، أنه "هو"... و لا إله إلا "هو"... و حقا" قليلا ما تشكرون".
و نقف أيضا أمام كلمة "الأفئدة" التي جاءت بصيغة الجمع... بالرغم من لكل كنا قلبا واحدا.. إن الله يبلغنا أن هناك أيضا أفئدة أخرى تفضل بهـا علينـا... أفئدة قد نعرف بعضهـا و لا نعرف الآخر... فأين تكمن المشاعر الإنسانية الفياضة التي تميزنا و تزكى قيمتنا... أين تكمن القيم الإنسانية التي تسمو بالإنسان.. الحب و العطف و الحنان و الحياء و الجود و الكرم و البر و الشجاعة و الإقدام... الفرح و الرضا و الصدق و القناعة و الصبر... هل كل منهـا له فؤاد... يقف العلم البشرى عاجزا عن تحديد أين تكون هذه الأفئدة... و الآن نرى فى آية واحدة صياغة لكل من ينظر إلى إنشائه و مداركه إلى قول الحق.. قل يا محمد صلى الله عليه و سلم لكل هؤلاء أنه "هو" صاحب كل هذه النعم... فليوفوه حقه من الشكر إن كانوا يعلمون...
الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com
============
.د. ســلامه عبد الهادي
أستاذ في علوم إدارة الطاقة وعميد سابق للمعهد العالي للطاقة بأسوان |