• التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

    التفسير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

    بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

    نزل القرآن الكريم على نبى أُمِّى، وقوم أُمِّيين، ليس لهم إلا ألسنتهم وقلوبهم، وكانت لهم فنون من القول يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، وكانت هذه الفنون لا تكاد تتجاوز ضروباً من الوصف، وأنواعاً من الحِكَم، وطائفة من الأخبار والأنساب، وقليلاً مما يجرى هذا المجرى، وكان كلامهم مشتملاً على الحقيقة والمجاز، والتصريح والكناية. والإيجاز والإطناب.

    وجرباً على سُّنَّة الله تعالى فى إرسال الرسل، نزل القرآن بلغة العرب وعلى أساليبهم فى كلامه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .. [إبراهيم: 4] فألفاظ القرآن عربية، إلا ألفَاظاً قليلةً، اختلفت فيها أنظار العلماء، فمن قائل: إنها عُرِّبت وأُخِذت من لغات أخرى، ولكن العرب هضمتها وأجرت عليها قوانينها فصارت عربية بالاستعمال. ومن قائل: إنها عربية بحتة، غاية الأمر أنها مما تواردت عليه اللغات، وعلى كِلا القولين فهذه الألفاظ لا تُخرِج القرآن عن كونه عربياً.

    استعمل القرآن فى أسلوبه الحقيقة والمجاز، والتصريح والكناية، والإيجاز والأطناب، وعلى نمط العرب فى كلامهم. غير أن القرآن يعلو على غيره من الكلام العربى، بمعانيه الرائعة التى افتنَّ بها فى غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، تحقيقاً لإعجازه، ولكونه من لدن حكيم عليم.

    فهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة للقرآن

    وكان طبيعياً أن يفهم النبى صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، إذ تكفل الله تعالى له بالحفظ والبيان: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 17-19] ، كما كان طبيعياً أن يفهم أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم القرآن فى جملته، أى بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلاً، ومعرفة دقائق باطنه، بحيث لا يغيب عنهم شاردة ولا واردة، فهذا غير ميسور لهم بمجرد معرفتهم للغة القرآن، بل لا بد لهم من البحث والنظر والرجوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فيما يشكل عليهم فهمه، وذلك لأن القرآن فيه المجمل، والمشكل، والمتشابه، وغير ذلك مما لا بد فى معرفته من أمور أُخرى يُرجعَ إليها.

    ولا أظن الحق مع ابن خلدون حيث يقول فى مقدمته: "إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه فى مفرداته وتراكيبه"، نعم لا أظن الحق معه فى ذلك، لأن نزول القرآن بلغة العرب لا يقتضى أن العرب كلهم كانوا يفهمونه فى مفرداته وتراكيبه، وأقرب دليل على هذا ما نشاهده اليوم من الكتب المؤلَفة على اختلاف لغاتها، وعجز كثير من أبناء هذه اللغات عن فهم كثير مما جاء فيها بلغتهم، إذ الفهم لا يتوقف على معرفة اللغة وحدها، بل لا بد لمن يفتش عن المعانى ويبحث عنها من أن تكون له موهبة عقلية خاصة، تتناسب مع درجة الكتاب وقوة تأليفه.

    تفاوت الصحابة فى فهم القرآن:

    ولو أننا رجعنا إلى عهد الصحابة لوجدنا أنهم لم يكونوا فى درجة واحدة بالنسبة لفهم معانى القرآن، بل تفاوتت مراتبهم، وأشكل على بعضهم ما ظهر لبعض آخر منهم، وهذا يرجع إلى تفاوتهم فى القوة العقلية، وتفاوتهم فى معرفة ما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، وأكثر من هذا، أنهم كانوا لا يتساوون فى معرفة المعانى التى وُضعت لها المفردات، فمن مفردات القرآن ما خفى معناه على بعض الصحابة، ولا ضَيْر فى هذا، فإن اللغة لا يحيط بها إلا معصوم، ولم يدَّع أحد أن كل فرد من أُمَّة يعرف جميع ألفاظ لغتها.

    ومما يشهد لهذا الذى ذهبنا إليه، ما أخرجه أبو عبيدة فى الفضائل عن أنس: "أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} .. [عبس: 31] فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟. ثم رجعَ إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر". وما روى من أن عمر كان على المنبر فقرأ: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} .. [النحل: 47] ثم سأل عن معنى التخوف، فقال له رجل من هذيل: التخوُّف عندنا التنقص، ثم أنشده:

    تَخَوَّفَ الرَّحُلُ منها تامِكاً قَرِداً ... كما تَخَوَّفَ عُودَ النبعةِ السَّفِنُ

    وما أخرجه أبو عبيدة من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: "كنت لا أدرى ما {فَاطِرِ السماوات} حتى أتانى أعرابيان يتخاصمان فى بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، والآخر يقول: أنا ابتدأتها".

    فإذا كان عمر بن الخطاب يخفى عليه معنى "الأَبّ" ومعنى "التَخَوُّف" ويسأل عنهما غيره، وابن عباس - وهو ترجمان القرآن - لا يظهر له معنى "فاطر" إلا بعد سماعها من غيره، فكيف شأن غيرهما من الصحابة؟ لا شك أن كثيراً منهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالى للآية، فيكفيهم - مثلاً - أن يعلموا من قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} أنه تعداد للنِعمَ التى أنعم الله بها عليهم، ولا يلزمون أنفسهم بتفهم معنى الآية تفصيلاً ما دام المراد واضحاً جلياً.

    وماذا يقول ابن خلدون فيما رواه البخارى، من أن عدى بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} .. [البقرة: 187] وبلغ من أمره أن أخذ عقالاً أبيض وعقالاً أسود، فلما كان بعض الليل، نظر إليهما فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول بشأنه، فعرَّض بقلة فهمه، وأفهمه المراد.

    الحق أن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كانوا يتفاوتون فى القدرة على فهم القرآن وبيان معانيه المرادة منه، وذلك راجع - كما تقدَّم - إلى اختلافهم فى أدوات الفهم، فقد كانوا يتفاوتون فى العلم بلغتهم، فمنهم من كان واسع الاطلاع فيها ملِّماً بغريبها، ومنهم دون ذلك، ومنهم مَن كان يلازم النبى صلى الله عليه وسلم فيعرف من أسباب النزول ما لا يعرفه غيره، أضف إلى هذا وذاك أن الصحابة لم يكونوا فى درجتهم العلمية ومواهبهم العقلية سواء، بل كانوا مختلفين فى ذلك اختلافاً عظيماً.

    قال مسروق: "جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ - يعنى الغدير - فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين، والإخاذ يروى العشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم".

    هذا.. وقد قال ابن قتيبة - وهو ممن تقدَّم على ابن خلدون بقرون -: "إن العرب لا تستوي في المعرفة بجميع ما فى القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل فى ذلك على بعض". ويظهر أن ابن خلدون قد شعر بذلك فصرَّح به فيما أورده بعد عبارته السابقة بقليل حيث قال: "وكان النبى صلى الله عليه وسلم يُبيِّن المجمل، ويُميِّز الناسخ من المنسوخ، ويُعرِّفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه".. وهذا تصريح منه بأن العرب كان لا يكفيهم فى معرفة معاني القرآن معرفتهم بلغته، بل كانوا فى كثير من الأحيان بحاجة إلى توقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم.

    IslamQT.Com

    الإسلام – القرآن والتفسير

    ===============

     

    المصدر:

    التفسير والمفسرون، للدكتور محمد السيد حسين الذهبي.

     


    بازگشت به ابتدا

    بازگشت به نتايج قبل

     

    چاپ مقاله

     
    » بازدید امروز: 581
    » بازدید دیروز: 946
    » افراد آنلاین: 14
    » بازدید کل: 30545