عبد الله بن عباس (ومدرسة التفسير - بمكة المكرمة)
ترجمة عبد الله بن عباس
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي . ابن عم رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأمه لبابة الكبري بنت الحارث بن حزن الهلالية. ولد والنبي عليه الصلاة والسلام وأهل بيته بالشعب بمكة . فأتي به النبي عليه الصلاة والسلام فحنكه بريقه ،وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين ،ولازم النبي عليه الصلاة والسلام في صغره ؛ لقرابته منه ، ولأن خالته ميمونة كانت من أزواج رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وتوفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وله من العمر ثلاث عشرة سنة ، وقيل خمس عشرة ، فلازم كبار الصحابة وأخذ عنهم ما فاته من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وكانت وفاته سنة ثمان وستين على الأرجح ، وله من العمر سبعون سنة . مات بالطائف ودفن بها ، وتولي وضعهن في قبره محمد بن الحنفية ، وقال بعد أنسوى عليه التراب : مات والله اليوم حبر هذه الأمة ...
مبلغه من العلم
كان ابن عباس يلقب بالحبر والبحر لكثرة علمه ، وكان على درجة عظيمة من الاجتهاد والمعرفة بمعاني كتاب الله ، ولذا انتهت إليه الرياسة في الفتوي والتفسير . وكان عمر رضي الله عنه يجلسه في مجلسه مع كبار الصحابة ويدنيه منه ، وكان يقول له : إنك لأصبح فتياننا وجها، وأحسنهم خلقا ، وأفقههم في كتاب الله . وقال في شأنه : ذاكم فتي الكهول ؛ إن له لسانا مسئولا ، وقلبا عقولا . وكان لفرط أدبه إذا سأله عمر مع الصحابة عن شئ يقول : لا أتكلم حتى يتكلموا . وكان عمر رضي الله عنه يعتد برأي ابن عباس مع حداثة سنه ؛ يلدنا على ذلك ما رواه ابن الأثير في كتابه أسد الغابة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : "إن عمر كان إذا جاءته الأقضية المعضلة قال : لابن عباس : إنها قد طرأت علينا أقضية وعضل ، فأنت لها ولأمثالها ، فكان يأخذ بقوله ، وما كان يدعو لذلك أحدا سواه ، قال عبيد الله : وعمر هو عمر في حذقه واجتهاده لله وللمسلمين ، وما رواه البخاري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه وقال : لم يدخل هذا معنا وإن لنا أبناء مثله ؟ فقال عمر إنه من أعلمكم ، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم ، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم ، فقال : ما تقولون في قوله تعالي " إذا جاء نصر الله والفتح ..." ؟ فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم ولم يقل شيئا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت : لا ، فقال : ما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلي الله عليه وسلم أعلمه الله له ، قال : إذا جاء نصر الله والفتح فذلك علامة أجلك ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ، فقال عمر : لا أعلم منها إلا ما تقول ، أهـ . وهذا يدل على قوة فهمه وجودة فكره . وقال فيه ابن مسعود رضي اله عنه : " نعم ترجمان القرآن ابن عباس " . وقال فيه عطاء " ما رأيت أكرم من مجلس ابن عباس ، أصحاب الفقه عنده ، وأصحاب القرآن عنده ، وأصحاب الشعر عنده ، يصدرهم كلهم من واد واسع " . وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة "كان ابن عباس قد فات الناس بخصال : بعلم ما سبقه وفقه فيما احتيج إليه من رأيه ، وحلم ونسب ، وتأويل ، وما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم منه ، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه ولا أثقب رأيا فيما احتيج إليه منه ، ولقد كان يجلس يوما ولا يذكر فيه إلا الفقه ، ويوما التأويل ، ويوما المغازي ، ويوما الشعر ، ويوما أيام العرب ، ولا رأيت عالما قط جلس إليه إلا خضع له ، وما رأيت سائلا قط سأله إلا وجد عنده علما" . وقيل لطاوس لزمت هذا الغلام ـ يعني ابن عباس ـ وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، قال : إني رأيت سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا تدارءوا في أمر صاروا إلى قول ابن عباس" . وروي الأعمش عن أبي وائل قال : " استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم فقرأ في خطبته سورة البقرة ـ وفي رواية سورة النور ـ ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا ، وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس ويقول : " كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق" . وبالجملة ، فقد كانت حياة ابن عباس حياة علمية ، يتعلم ويعلم ، ولم يشتغل بالإمارة إلا قليلا لما استعمله علي علي البصرة ، والحق : أن ابن عباس قد ظهر فيه النبوغ العربي بأكمل معانيه . علما ، وفصاحة ، وسعة اطلاع في نواح علمية مختلفة ، لا سيما فهمه لكتاب الله تعالي. وخير ما يقال فيه ما قاله ابن عمر رضي الله عنه : ( ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد ) [ انظر أسد الغابة ج ص192 ـ 195 ].
أسباب نبوغه
ونستطيع أن نرجع هذه الشهرة العلمية ؛ وهذا النبوغ الواسع الفياض ، إلى أسباب نجملها فيما يلي : ـ أولا : دعاء النبي صلي الله عليه وسلم له بقوله : اللهم علمه الكتاب والحكمة ، وفي رواية أخري " اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل " ؛ والذي يرجع إلى كتب التفسير بالمأثور ، يري أثر هذه الدعوة النبوية ، يتجلي واضحا فيما صح عن ابن عباس رضي الله عنه. ثانيا : نشأته في بيت النبوة، وملازمته لرسول الله صلي الله عليه وسلم من عهد التمييز ؛ فكان يسمع منه الشئ الكثير ، ويشهد كثيرا من الحوادث والظروف التي نزلت فيها بعض آيات القرآن . ثالثا : ملازمته لأكابر الصحابة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم ، يأخذ عنهم ويروي لهم، ويعرف منهم مواطن نزول القرآن ، وتواريخ التشريع وأسباب النزول ، وبهذا استعاض عما فاته من العلم بموت رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وتحدث بهذا ابن عباس عن نفسه فقال " وجدت عامة حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم عند الأنصار ، فإن كنت لآتي الرجل فأجده نائما ، لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ ؛ فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ ، وأسأله عما أريد ، ثم أنصرف". رابعا : حفظه للغة العربية ، ومعرفته لغريبها ، وآدابها ، وخصائصها ، وأساليبها ؛ وكثيرا ما كان يستشهد للمعنى الذي يفهمه من لفظ القرآن بالبيت والأكثر من الشعر العربي. خامسا : بلوغه مرتبة الاجتهاد ، وعدم تحرجه منه ، وشجاعته في بيان ما يعتقد أنه الحق ، دون أن يأبه لملامة لائم ونقد ناقد ، مادام يثق بأن الحق في جانبه ، وكثيرا ما انتقد عيه ابن عمر جرأته على تفسير القرآن ، ولكن لم ترق إليه همة نقده ، بل ما لبث أن رجع إلى قوله ، واعترف بمبلغ علمه ، فقد روي أن رجلا أتي ابن عمر يسأله عن معنى قوله تعالي " أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما " [ الأنبياء : الآية 3.] ، فقال : اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرني ، فذهب فسأله فقال : كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر ، وهذه بالنبات ، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال : قد كنت أقول : ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه أوتي علما. هذه هي أهم الأسباب التي ترجع إليها شهرة ابن عباس في التفسير ، يضاف إل ذلك كونه من أهل بيت النبوة ، منبع الهداية ، ومصدر النور ، وما وهبه الله من قريحة وقادة ، وعقل راجح ، ورأي صائب ، وإيمان راسخ ، ودين متين .
قيمة بن عباس في تفسير القرآن
تتبين قيمة ابن عباس في التفسير ، من قول تلميذه مجاهد " إنه إذا فسر الشئ رأيت عليه النور" ، ومن قول علي رضي الله عنه يثني عليه في تفسيره " كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق " ، ومن قول ابن عمر " ابن عباس أعلم أمة محمد بما نزل على محمد" ، ومن رجوع بعض الصحابة وكثير من التابعين إليه في فهم ما أشكل عليهم من كتاب الله ، فكثيرا ما توجه إليه معاصروه ليزيل شكوكهم ، ويكشف لهم عما عز عليهم فهمه من كتاب الله تعالي. ففي قصة موسي مع شعيب أشكل على بعض أهل العلم ، أي الأجلين قضي موسي ؟ هل كان ثمان سنين ؟ أو أنه أتم عشرا ؟ ولما لم يقف على رأي يمم شطر ابن عباس ، الذي هو بحق ترجمان القرآن ، ليسأله عما أشكل عليه ، وفي هذا يروي الطبري في تفسيره ، عن سعيد بن جبير قال : " قال يهودي بالكوفة ـ وأنا أتجهز للحج ـ إني أراك رجلا تتتبع العلم ، فأخبرني أى الأجلين قضي موسي ؟ قلت : لا أعلم ، وأنا الآن قادم على حبر العرب ـ يعني ابن عباس ـ فسائله عن ذلك ، فلما قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك وأخبرته بقول اليهودي ، فقال ابن عباس قضي أكثرهما وأطيبهما ؛ إن النبي إذا وعد لم يخلف ، وقال سعيد : فقدمت العراق فلقيت اليهودي فأخبرته فقال : صدق وما أنزل على موسي ، هذا والله العالم أ هـ [ تفسير ابن جرير ج 2. ص 43 ] . وهذا عمر رضي الله عنه يسأل الصحابة عن معنى آية من كتاب الله ، فلما لم يجد عندهم جوابا مرضيا رجع إلى ابن عباس فسأله عنها ، وكان يثق بتفسيره ، وفي هذا يروي الطبري " أن عمر سأل الناس عن هذه الآية . يعني ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ... الآية [ الآية 266 من سورة البقرة ] " فما وجد أحدا يشفيه ، حتى قال ابن عباس وهو خلفه : يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها شيئا ، فتلفت إليه فقال تحول ههنا ، لم تحقر نفسك ؟ قال : هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال : أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة ، حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره واقترب أجله ، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فأفسده كله ، فحرقه أحوج ما كان إليه " أ هـ [ تفسير ابن جرير ج3 ص 47 ] . وسؤال عمر له مع الصحابة عن تفسير قوله تعالي " إذا جاء نصر الله والفتح" وجوابه بالجواب المشهور عنه ، يدل على أن ابن عباس كان يستخرج خفي المعاني التي شير إليها القرآن ، ولا يدركها إلا من نفحه الله بنفحة من روحه ، وكثيرا ما ظهر ابن عباس في المسائل المعقدة في التفسير بمظهر الرجل الملهم الذي ينظر إلى الغيب من ستر رقيق ، كما وصفه علي رضي الله عنه ، الأمر الذي جعل الصحابة يقدرون ابن عباس ويثقون بتفسيره ، ولقد وجد هذا التقدير صداه في عصر التابعين ، فكانت هناك مدرسة يتلقي تلاميذها التفسير عن ابن عباس . استقرت هذه المدرسة بمكة ، ثم غذت بعلمها الأمصار المختلفة ، وما زال تفسير ابن عباس يلقي من المسلمين إعجابا وتقديرا ، إلى درجة أنه إذا صح النقل عن ابن عباس لا يكادون يعدلون عن قوله إلى قول آخر. وقد صرح الزركشي بأن قول ابن عباس مقدم على قول غيره من الصحابة عند تعارض ما جاء عنهم في التفسير[ الإتقان ج2 ص 183 ] .
رجوع ابن عباس إلى أهل الكتاب
كان ابن عباس كغيره من الصحابة الذين اشتهروا بالتفسير ، يرجعون في فهم معاني القرآن إلى ما سمعوه من رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وإلى ما يفتح الله به عليهم من طريق النظر والاجتهاد ، مع الاستعانة بمعرفة أسباب النزول والظروف والملابسات التي نزل فيها القرآن . وكان رضي الله عنه يرجع إلى أهل الكتاب ويأخذ عنهم ، بحكم اتفاق القرآن مع التوراة والإنجيل في كثير من المواضع التي أجملت في القرآن وفصلت في التوراة أو الإنجيل ، ولكن كما قلنا فيما سبق إن الرجوع إلى أهل الكتاب كان في دائرة محدودة ضيقة ، تتفق مع القرآن وتشهد له ، أما ما عدا ذلك مما يتنافي مع القرآن ، ولا يتفق مع الشريعة الإسلامية ، فكان ابن عباس لا يقبله ولا يأخذ به .
رجوع ابن عباس إلى الشعر القديم
كان ابن عباس رض الله عنه يرجع في فهم معاني الألفاظ التي وردت في القرآن إلى الشعر الجاهلي ، وكان غيره من الصحابة يسلك هذا الطريق في فهم غريب القرآن ، ويحض على الرجوع إلى الشعر العربي القديم ؛ ليستعان به على فهم معاني الألفاظ القرآنية الغريبة ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل أصحابه عن معنى قوله تعالي في الآية (47) من سورة النحل " أو يأخذهم على تخوف " فيقوم له شيخ من هذيل فيقول له : هذه لغتنا ، التخوف : التنقص ، فيقول له عمر : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ فيقول له : نعم ، ويروي قول الشاعر :
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن
فيقول عمر رضي الله عنه لأصحابه : عليكم بديوانكم لا تضلوا ، قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية ، فإن فيه تفسير كتابكم ، ومعاني كلامكم " [ القصة في الموافقات ج 2 ص 88 ] وليس فيها ما يعارض ما جاء عن عمر من أنه لما سأل عن الأب رجع إلى نفسه وقال : إن هذا لهو التكلف يا عمر ؛ لأن الآية التي معنا يتوقف فهم معناها على معرفة معنى التخوف ؛ بخلاف الآية الأحري ، فإن المعنى الذي يراد منها لا يتوقف على معرفة معنى الأب ] . غير أن ابن عباس ، امتاز بهذه الناحية واشتهر بها أكثر من غيره ، فكثيرا ما كان يسأل عن القرآن فينشد فيه الشعر ، وقد روي عنه الشئ الكثير من ذلك ، وأوعب ما روي عنه مسائل نافع بن الأزرق وأجوبته عنها ، وقد بلغت مائتي مسألة ، أخرج بعضها ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء ، وأخرج الطبراني بعضها الآخر في معجمه الكبير ، وقد ذكر السيوطي في الإتقان بسنده مبدأ هذا الحوار الذي كان بين نافع وابن عباس ، وسرد مسائل ابن الأزرق وأجوبة ابن عباس عنها ، فقال : " بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن ، فقال نافع بن الأزرق لنجده بن عويمر : بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به ، فقاما إليه فقالا : إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا ، وتأتينا بمصادقه من كلام العرب؛ فإن الله تعالي إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين ، فقال ابن عباس : سلاني عما بدا لكما ، فقال نافع : أخبرني عن قول الله تعالي " عن اليمين وعن الشمال عزين [ في الآية 37 من سورة المعارج ] . قال : العزون : حلق الرفاق ، قال : هل تعرف العرب ذلك ؟ . قال : نعم ، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول :
فجاءوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا ؟
قال أخبرني عن قوله " وابتغوا إليه الوسيلة [ في الآية 35 من سورة المائدة ] . قال : الوسيلة : الحاجة ، قال وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت عنترة وهو يقول : إن الرجال لهم إليك وسيلة .. إن يأخذوك تكحلي وتخضبي إلى آخر المسائل وأجوبتها [ وهي في الإتقان ج1 ص 120 ] ، وهي تدل على قوة ابن عباس في معرفته بلغة العرب ، وإلمامه بغريبها، إلى حد لم يصل إليه غيره ، مما جعله ـ بحق ـ إما التفسير في عهد الصحابة ، ومرجع المفسرين في الأعصر التالية للعصر الذي وجد فيه ، وزعيم هذه الناحية من التفسير على الخصوص ، حتى لقد قيل في شأنه " إنه هو الذي أبدع الطريقة اللغوية لتفسير القرآن " [ المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن 69 ] . هذا وقد بين لنا ابن عباس رضي الله عنه ، مبلغ الحاجة إلى هذه الناحية في التفسير ، وحض عليها من أراد أن يتعرف غريب القرآن ، فقد روي أبو بكر بن الأنباري عنه أنه قال : " الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب ، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه " [ الإتقان ج1 ص 119 ] . وروي ابن الأنباري عنه أيضا أنه قال : " إذا سألتموني عن غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب " [ الإتقان ج1 ص 119 ] . فابن عباس رضي الله عنه كان يري رأي عمر في ضرورة الرجوع إلى الشعر الجاهلي ، للإستعانة به على فهم غريب القرآن ، بل وكان أكثر الصحابة إلماما بهذه الناحية وتطبيقا لها . وقد استمرت هذه الطريقة إلى عهد التابعين ومن يليهم ، إلى أن حدثت خصومة بين متورعي الفقهاء وأهل اللغة ، فأنكروا عليهم هذه الطريقة ، وقالوا : إن فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلا للقرآن [ ومن هؤلاء الإمام النيسابوري صاحب التفسير المشهور ، فقد صرح بذلك في مقدمة تفسيره ج1 ص 6 ] ، وقالوا : كيف يجوز أن يحتج بالشعر على القرآن ، وهو مذموم في القرآن والحديث. والحق أن هذه الخصومة التي جدت في الأجيال المتأخرة لم تقم على أساس ، فالأمر ليس كما يزعمه أصحاب هذا الرأي ، من جعل الشعر أصلا للقرآن ، بل هو في الواقع ، بيان للحرف الغريب من القرآن بالشعر ؛ لأن الله تعالي يقول " إنا جعلناه قرآنا عربيا "[ في الآية 3 من سورة الزخرف ]، وقال " بلسان عربي مبين" [ في الآية 195 من سورة الشعراء ]. ولهذا لم يتحرج المفسرون إلى يومنا هذا من الرجوع إلى الشعر الجاهلي للاستشهاد به على المعنى الذي يذهبون إليه في فهم كلام الله تعالي .
الرواية عن ابن عباس ومبلغها من الصحة
روي عن ابن عباس رضي الله عنه في التفسير ما لا يحصي كثرة ، وتعددت الروايات عنه ، واختلفت طرقها ، فلا تكاد تجد آية من كتاب الله تعالي إلا ولابن عباس رضي الله عنه فيها قول أو أقوال ، الأمر الذي جعل نقاد الأثر ورواة الحديث يقفون إزاء هذه الروايات التي جاوزت الحد وقفة المرتاب ، فتتبعوا سلسلة الرواة فعدلوا العدول ، وجرحوا الضعفاء ، وكشفوا للناس عن مقدار هذه الروايات قوة وضعفا. وأري أن أسوق هنا أشهر الروايات عن ابن عباس . ثم أبين مبلغها من الصحة أو الضعف ، لنعلم إلى أي حد وصل الوضع والاختلاق على ابن عباس رض الله عنه . وهذه هي أشهر الطرق : أولها : طريق معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهذه هي أجود الطرق عنه ، وفيها قال الإمام أحمد رضي الله عنه " إن بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة ، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا [ الإتقان ج2 ص 188 ] " . وقال الحافظ بن حج " .. وهذه النسخة كانت عند أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وهي عند البخاري عن أبي صالح ، وقد اعتمد عليها في صحيحه فيما يعلقه عن ابن عباس " [ الإتقان ج2 ص 188]. وكثيرا ما اعتمد على هذه الطريق ابن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر بواسائط بينهم وبين أبي صالح . ومسلم صاحب الصحيح وأصحاب السنن جميعا يحتجون بعلي بن أبي طلحة.
طعن بعض النقاد على هذه الطريق
ولقد حاول بعض النقاد أن يقلل من قدر هذه الطريق فقال " إن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير ، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير " [ الإتقان ج2 ص 188 ] .وعلى هذا فهي طريق منقطعة لا يركن إليها ، ولا يعول عليها . وقد استغل هذا القول الأستاذ جولد زيهر في كتابه " المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن " قال : " صرح النقدة المسلمون بأن ذلك الرجل ـ علي بن أبي طلحة ـ لم يسمع التفسير الذي تضمنه كتابه مباشرة من ابن عباس ، وهكذا فإنه حتى في صحة القسم الخاص بالتفسير الأكثر تصديقا، يحكم النقدة المسلمون بهذا الحكم فيما يتعلق بصحة نسبته لابن عباس على أنه هو المصدر الأول له [ ص 77 ] اهـ .
تفنيد هذا الطعن : ـ ويظهر لنا أن الأستاذ جولد زيهر ، جهل أو تجاهل ما رد به النقاد المعتبرون على هذا الظن الذي لا قيمة له ، فقد فند ابن حجر هذا النقد بقوله " بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير ف ذلك " [ الإتقان ج2 ص 188 ] ، وقال صاحب إيثار الحق " وقال الذهبي في الميزان : وقد روي ـ يعني على بن أبي طلحة عن ابن عباس تفسيرا كثيرا ممتعا ، والصحيح عندهم أن روايته عن مجاهد عن ابن عباس ، وإن كان يرسلها عن ابن عباس فمجاهد ثقة يقبل " [ إيثار الحق ص 159 ] . وجملة القول ، فهذه أصح الطرق في التفسير عن ابن عباس ، وكفي بتوثيق البخاري لها واعتماده عليها شاهدا على صحتها. ثانيها : طريق قيس بن مسلم الكوفي ، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين ، وكثيرا ما يخرج منها الفريابي والحاكم في مستدركه . ثالثها : طريق ابن إسحاق صاحب السير ، عن محمد بن أبي محمد مولي آل زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وهي طريق جيدة وإسنادها حسن ، وقد أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا ، وأخرج الطبراني منها في معجمه الكبير . رابعا : طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، تارة عن أبي مالك ، وتارة عن أبي صالح عن ابن عباس . وإسماعيل السدي مختلف فيه ، وحديثه عند مسلم وأهل السنن الأربعة ، وهو تابعي شيعي [ إيثار الحق ص 159 ] . وقال السيوطي " روي عن السدي الأئمة مثل الثوري وشعبة ، لكن التفسير الذي جمعه رواه أسباط ابن نصر ، وأسباط لم يتفقوا عليه ، غير أن أمثل التفاسير تفسير السدي" [ الإتقان ج2 ص 188]. وابن جرير يورد في تفسيره كثيرا من تفسير السدي عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس ، ولم يخرج منه ابن أبي حاتم شيئا ؛ لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد . خامسا : طريق عبد الملك بن جريج ، عن ابن عباس ، وهي تحتاج إلى دقة في البحث ، ليعرف الصحيح منها والسقيم ، فإن ابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع ، وإنما روي ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم ، فلم يتميز في روايته الصحيح من غيره ، وقد روي عن ابن جريج هذا جماعة كثيرة ، منهم بكر بن سهل الدمياطي ، عن عبد الغني بن سعيد ، عن موسي بن محمد ، عن ابن جريج عن ابن عباس ،ورواية بكر بن سهل أطول الروايات عن ابن جريج وفيها نظر. ومنهم محمد ابن ثور ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس ، روي ثلاثة أجزاء كبار . ومنهم الحجاج بن محمد عن ابن جريج ، روى جزءا وهو صحيح متفق عليه . سادسها : طريق الضحاك بن مزاحم الهلالي عن ابن عباس . وهي غير مرضية ؛ لأنه وإن وثقه نفر فطريقه إلى ابن عباس منقطعة ؛ لأنه روي عنه ولم يلقه ، فإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، فضعيفة لضعف بشر ، وقد أخرج من هذه النسخة كثيرا ابن جرير وابن أبي حاتم . وإن كان من رواية جويبر عن الضحاك فأشد ضعفا ؛ لأن جويبر شديد الضعف متروك . ولم يخرج ابن جرير ولا ابن أبي حاتم من هذه الطريق شيئا ، إنما خرجها ابن مردويه، وأبو الشيخ بن حبان . سابعها : طريق عطية العوفي ، عن ابن عباس ، وهي غير مرضية ؛ لأن عطية ضعيف ليس بواه ، وربما حسن له الترمذي . وهذه الطريق قد أخرج منها ابن جرير ، وابن أبي حاتم كثيرا. ثامنها : طريق مقاتل ابن سليمان الأزدي الخراساني ، وهو المفسر الذي ينسب إلى الشافعي أنه قال فيه " إن الناس عيال عليه في التفسير " [ وفيات الأعيان ج2 ص 567 ] ، ومع ذلك فقد ضعفوه ، وقالوا : إنه يروي عن مجاهد وعن الضحاك ولم يسمع منهما . وقد كذبه غير واحد ، ولم يوثقه أحد ، واشتهر عنه التجسيم والتشبيه [ إيثار الحق ص 159 ] ، وتكلم عنه السيوطي فقال : " إن الكلبي يفضل عليه ، لما في مقاتل من المذاهب الردية [ الإتقان ج2 ص 189 ] " وقد سئل وكيع عن تفسير مقاتل فقال : " لا تنظروا فيه ، فقال السائل : ما أصنع به؟ قال ادفنه ـ يعني التفسير ـ " [ تهذيب الأسماء واللغات ج2 ص 111 ] ، وقال أحمد بن حنبل : لا يعجبني أن أروي عن مقاتل بن سليمان شيئا [ تهذيب الأسماء واللغات ج2 ص 111 ] . وبالجملة فإن من استحسن تفسير مقاتل كان يضعفه ويقول " ما أحسن تفسيره لو كان ثقة " [ التفسير ـ معالم حياته ـ منهجه اليوم ص 9 ] . تاسعها : طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وهذه أوهي الطرق. والكلبي مشهور بالتفسير ، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشيع كما قال ابن عدي في الكامل ، ومع ذلك فإن وجد من قال : رضوه في التفسير ، فقد وجد من قال : أجمعوا على ترك حديثه ، وليس بثقة ، ولا يكتب حديثه ، واتهمه جماعة بالوضع [ التفسير ـ معالم حياته ـ منهجه اليوم ص 9 ] . وممن يروي عن الكلبي . محمد بن مروان السدي الصغير ، وقد قالوا فيه : إنه يضع الحديث ، وذاهب الحديث متروك ، ولهذا قال السيوطي في الإتقان " فإن انضم إلى ذلك ـ أي طريق الكلبي ـ رواية محمد بن مروان السدي الصغير ، فهي سلسلة الكذب " [ الإتقان ج2 ص 189 ] ، وقال السيوطي أيضا في كتابه الدر المنثور ج6 ص 423 "الكلبي : اتهمون بالكذب وقد مرض فقال لأصحابه في مرضه : كل شئ حدثتكم عن أبي صالح كذب " ومع ضعف الكلبي فقد روي عنه تفسيره مثله أو أشد ضعفا ، وهو محمد بن مروان السدي الصغير " وكثيرا ما يخرج من هذه الطريق الثعلبي والواحدي. هذه هي أشهر الطرق عن ابن عباس ، صحيحها وسقيمها ، وقد عرفت قيمة كل طريق منها، ومن اعتمد عليها فيما جمع من التفسير عن ابن عباس رضي الله عنه.
التفسير المنسوب إلى ابن عباس وقيمته
هذا، وقد نسب إلى ابن عباس رضي الله عنه جزء كبير في التفسير ، وطبع في مصر مرارا باسم " تنوير المقياس من تفسير ابن عباس " جمعه أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروز ابادي الشافعي ، صاحب القاموس المحيط ، وقد اطلعت علي هذا التفسير ، فوجدت جامعه يسوق عند الكلام عن البسملة الرواية عن ابن عباس بهذا السند "أخبرنا عبد الله الثقة بن المأمون الهروي، قال : أخبرنا أبي ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمود بن محمد الرازي ، قال : أخبرنا عمار بن عبد المجيد الهروي ، قال : أخبرنا علي بن إسحق السمرقندي ، عن محمد بن مروان، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس" . وعند تفسير أول البقرة ، وجدته يسوق الكلام بإسناده إلى عبد الله بن المبارك ، قال : حدثنا علي بن إسحق السمرقندي عن محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس. وفي مبدأ كل سورة يقول : وبإسناده عن ابن عباس . ... وهكذا يظهر لنا جليا ، أن جميع ما روي عن ابن عباس في هذا الكتاب يدور على محمد بن مروان السدي الصغير ، عن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وقد عرفنا مبلغ رواية السدي الصغير عن الكلبي فيما تقدم . وحسبنا في التعقيب على هذا ما روي من طريق ابن عبد الحكم قال : "سمعت الشافعي يقول : لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث " [ الإتقان ج2 ص 189 ] . وهذا الخبر ـ إن صح عن الشافعي ـ يدلنا على مقدار ما كان عليه الوضاعون من الجرأة على اختلاق هذه الكثرة من التفسير المنسوبة إلى ابن عباس ، وليس أدل على ذلك ، من أنك تلمس التناقض ظاهرا بين أقوال في التفسير نسبت إلى ابن عباس ورويت عنه ،وسيأتي ـ عند الكلام عن الوضع في التفسير ـ أن هذا التفسير المنسوب إلى ابن عباس لم يفقد شيئا من قيمته العلمية في الغالب، وإنما الشئ الذي لا قيمة له فيه ، هو نسبته إلى ابن عباس . أسباب الوضع على ابن عباس : ـ ويبدو أن السر في كثرة الوضع على ابن عباس ، هو أنه كان من بيت النبوة ، والوضع عليه يكسب الموضوع ثقة وقوة أكثر مما لو وضع على غيره ، أضف إلى ذلك أن ابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون ، وكان من الناس من يتزلف إليهم ، ويتقرب منهم بما يرويه لهم عن جدهم(3).
(1) مدرسة التفسير بمكة
وقامت مدرسة التفسير بمكة على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما . فكان يجلس لأصحابه من التابعين ، يفسر لهم كتاب الله تعالي ، ويوضح لهم ما أشكل من معانيه ،وكان تلاميذه يعون عنه ما يقول ، ويروون لمن بعدهم ما سمعوه. أشهر رجالها : ـ وقد اشتهر من تلاميذ ابن عباس بمكة : سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة مولي ابن عباس ، وطاوس بن كيسان اليماني ، وعطاء بن أبي رباج . وهؤلاء كلهم كانوا من الموالي ، وهم يختلفون في الرواية عن ابن عباس قلة وكثرة ، كما اختلف العلماء في مقدار الثقة بهم والركون إليهم.
الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com
==============
|