العلوم التي يحتاج المفسر إلى معرفتها
اختلف الناس في تفسير القرآن ، هل يجوز لكل أحد الخوض فيه ؟ فقال قوم : لا يجوز لأحد أن يتعاطي تفسير شئ من القرآن ، وإن كان عالما أديبا متسعا في معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار ، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم في ذلك ، ومنهم من قال : يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها وهي خمسة عشر علما (1) 0 أحدها : اللغة ؛ لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع 0 قال مجاهد : لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب0 ولا يكفي في حقه معرفة اليسير منها ، فقد يكون اللفظ مشتركا ، وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر0 الثاني : النحو ، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب ، فلابد من اعتباره ؛ أخرج أبو عبيد عن الحسن ، أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ، ويقيم بها قراءته ، فقال : حن ، فتعلمها ، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها ، فيهلك فيها0 الثالث : التصريف ، لأن به تعرف الأبنية واصيغ ، قال ابن فارس : ومن فاته علمه فاته المعظم ، لأن "وجد" مثلا كلمة مبهمة ، فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها0 وقال الزمخشري : من بدع التفاسير قول من قال : إن الإمام في قوله تعال : (يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) ، جمع "أم" ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم ، قال : وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف ، فإن "أما" لا يجمع علي "إمام" 0 الرابع : الاشتقاق ، لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين ، اختلف المعنى باختلافهما ، كالمسح ، هل هو من السياحة أو المسح ! الخامس والسادس والسابع : المعاني والبيان والبديع .. لأنه يعرف بالأول : خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى ، وبالثاني : خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها ، وبالثالث : وجوه تحسين الكلام ، وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة ؛ وهي من أعظم أركان المفسر؛ لأنه لابد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز ، وإنما يدرك بهذه العلوم0 قال السكاكي : اعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة ، ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا التمرن على المعاني والبيان0 وقال ابن أبي الحديد : اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح ، والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ، ولا يمكن إقامة الدلالة عليه ، وهو بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة بحمرة دقيقة الشفتين ، نقية الثغر ، كحلاء العينين ، أسلة الخد ، دقيقة الأنف ، معتدلة القامة ، والأخري دونها في هذه الصفات والمحاسن ؛ لكنها أحلي في العيون والقلوب منها ، ولا يدري سبب ذلك ؛ ولكنه يعرف بالذوق والمشاهدة ، ولا يمكن تعليله ، وهكذا الكلام 0نعم يبقي الفرق بين الوصفين ، أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة ، وأما الكلام فلا يدرك إلا بالذوق ، وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة والفقه يكون من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام ، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان ، وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر ، وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة ؛ فإلى أولئك ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام، وفضل بعضه على بعض0 وقال الزمخشري : من حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه ، والبلاغة على كمالها ، وما وقع به التحدي سليما من القادح0 وقال غيره : معرفة هذه الصناعة بأوضاعها ، هي عمدة التفسير المطلع على عجائب كلام الله تعالي ، وهي قاعدة الفصاحة ، وواسطة عقد البلاغة 0 الثامن : علم القراءات ، لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن ، وبالقراءات بترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض 0 التاسع : أصول الدين بما في القرآن من الآيات الدالة بظاهرها على ما لا يجوز على الله تعالي، فالأصولي يؤول ذلك ، ويستدل على ما يستحيل وما يجب وما يجوز0 العاشر :أصول الفقه ، إذ به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام والاستنباط 0 الحادي عشر : أسباب النزول والقصص ، إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه 0 الثاني عشر : الناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره0 الثالث عشر : الفقه الرابع عشر : الأحاديث المبينة لتفسير المجمل والمبهم0 الخامس عشر : علم الموهبة ؛ وهو علم يورثه الله تعالي لمن عمل بما علم ، وإليه الإشارة بحديث : " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " 0 قال ابن أبي الدنيا : وعلوم القرآن وما يستنبط منه بحر لا ساحل له 0 قال : فهذه العلوم ـ التي هي كالآلة للمفسر ـ لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها ، فمن فسر بدونها كان مفسرا بالرأي المنهي عنه ، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأي المنهي عنه 0 قال : والصحابة والتابعون كان عندهم علوم العربية بالطبع لا بالاكتساب ، واستفادوا العلوم الأخري من النبي صلي الله عليه وسلم 0 قلت : ولعلك تستشكل علم الموهبة ، وتقول : هذا شئ ليس في قدرة الإنسان ، وليس كما ظننت من الإشكال ، والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد0 قال في البرهان : اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي ، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة أو كبر أو هوى أو حب الدنيا ، أو وهو مصر على ذنب ، أو غير متحقق بالإيمان أو ضعيف التحقيق ، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم ، أو راجع إلى معقوله ؛ وهذه كلها حجب وموانع بعضها آكد من بعض 0 قلت : وفي هذا المعنى قوله تعالي : ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) ، قال سفيان بن عيينة : يقول : أنزع عنهم فهم القرآن 0 أخرجه ابن أبي حاتم 0 الإسلام – القرآن والتفسير
IslamQT.Com
==============
1- السيوطي - الاتقان في علوم القرآن، 4/185 وما بعدها.
|